تحفل الدراما بتقديم الكثير من الأحداث الحياتية التي كانت ومازالت مؤثرة وحاضرة عبر التاريخ الإنساني، وفي كل تناول درامي لهذه الأحداث التي دخلت التاريخ تظهر مسألة الوثيقة التاريخية التي تؤيد حجج العمل ومقولته ومدى صدقه في نقل الوقائع والتواريخ وغيرها. وكما هو معروف بأن التأريخ لا يكتبه طرف واحد، بل أطراف متعددة، وبالتالي فإنه يحفل بالعديد من وجهات النظر، وهو ما ينعكس بدوره على الدراما التي تتناوله. فكيف عالجت الدراما التلفزيونية هذه المسألة بالغة الحساسية؟ ما هو الحوار الكامل والحقيقي الذي دار في بيت بروتوس في الليلة التي سبقت قتل يوليوس قيصر على أيدي قادته؟ وما هي المواقف التي درات بين هولاكو وخليفة المسلمين في بغداد عندما دمرها عام 1258 ميلادية؟ وما تفاصيل الحوار الذي دار بين ريتشارد قلب الأسد والناصر صلاح الدين الأيوبي على أبواب مدينة القدس أثناء معركة حطين 1187 ميلادية؟ ولا نعرف كيف انتهى حوار المجاهد عمر المختار مع القائد العسكري الإيطالي غراتسياني خلال التحقيق معه. وماذا كان الحوار بين عبدالله الصغير والملك فريناند وإيزابيلا عندما سلم آخر إمارة عربية في الأندلس؟ وما هي وقائع وحوارات ما جرى بين الشريف حسين ومكماهون والدور الذي لعبه لورانس لاحقا في لعبة ترسيم حدود الدول العربية وصولا إلى سايكس بيكو؟ وما هي الحوارات التي جمعت بينهما؟ الكثير من الأحداث والكثير من الخفايا في ظل شح وجود الوثيقة التاريخية التي لا تحسم الأمر نظرا إلى تناقضات بعضها. فكتب التاريخ والتراجم تحفل بالاختلاف والتناقض، وهذا دأبها في تاريخ كل الأمم، والدراما جزء من هذه اللعبة، ففيها رواية لأحداث تاريخية عن وقائع وأحداث وشخصيات تتناولها فتسقط في عواصف الرفض والقبول، ومن يتابع مسار الدراما العربية سيجد الكثير من الأعمال التي سببت لغطا تاريخيا بين أطراف عديدة. الفذلكة التاريخية عندما قدم الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة مسلسله الشهير “أرابيسك”، الذي يتحدث عن فن الأرابيسك وأصالته في مصر وقام ببطولته صلاح السعدني بدور حسن النعماني، تعامل مع الوثيقة التاريخية بطريقة غريبة، فقبل أن تبدأ أحداث المسلسل المعاصرة قدم تمهيدا تاريخيا لوجود هذه الفن في مصر، موضحا كيف انبهر السلطان العثماني سليم الأول بمدى تطور هذا الفن في المحروسة، وكان هذا اسم مصر، فأمر بأن يؤخذ كل المهرة والحرفيين في صنعة البناء والتزيين جبرا إلى إستامبول لكي يتم تزيينها. عكاشة سمى هذا المدخل بـ”الفذلكة التاريخية”، والتي لا بد منها لإيصال فكرته. فالدراما هي الحياة، وما يكون فيها ستقدمه الدراما من خلال فنونها، وكثيرا ما تقدم الدراما مواضيع تاريخية سواء كانت منذ عصور بعيدة أو قريبة، وهي في كل ذلك تحتاج إلى وثيقة تدعم وجهة نظرها في ما تقدمه، وهنا تبرز مشكلة الدراما، فموضوعات التاريخ مختلف بشأنها وهذا ما يعني تعدد الروايات حول الحدث الواحد. ومن الصعب وأحيانا من المستحيل معرفة ما الذي كان حقيقة، وهذا ما يدفع كتّاب السيناريو لقراءة كل وجهات النظر في الواقعة التاريخية المعنية، ومعرفة مسارات الحالة الدراميا وكذلك معرفة ذهنيات وأخلاق شخوصها ثم البناء على كل ذلك في تقديم أحداث وحوار، جزء منه حقيقي وآخر مفترض، وهنا مكمن الخطر في الدراما التي تتناول التاريخ البعيد أو القريب، وكلما كان التاريخ قريبا كانت حساسيته أكبر، وبالطبع فإن خلافات تأريخية وفكرية لم تحسمها الآلاف من الكتب عبر آلاف السنين لن يستطيع مسلسل يعالج موضوعا تاريخيا أن يحسمها، خاصة أنه يقدمها من خلال هذه المراجع التي تحوي تلك الخلافات. الفن والتوثيق مسلسل "جوقة عزيزة" يضع بيئة محددة مكانيا وزمنيا ثم يعمل الخيال لكي يوجد شخصيات وحكايات تضمها في الموسم الدرامي الحالي قدمت الدراما السورية عملين سببا جدلا في ناحية التوثيق التاريخي، واحد من التاريخ الإسلامي البعيد، وهو مسلسل “فتح الأندلس” الذي كتبه ستة مؤلفين (أبوالمكارم محمد وصالح السلتي وصابر أحمد ومحمد اليساري ومدين الرشيدي وإبراهيم كوكي) وأنتجه وأخرجه الكويتي محمد سامي العنزي. والآخر يقدم حالة تاريخية أحدث كانت منذ تسعين عاما ومكان حدثها دمشق، في مسلسل “جوقة عزيزة” تأليف خلدون قتلان وإخراج تامر إسحق وإنتاج شركة غولدن لاين. في مسلسل “فتح الأندلس” ثارت مسألة موغلة في العمق هي الجذر العرقي للقائد الإسلامي طارق بن زياد، حيث تعرض المسلسل لموجات من الرفض خاصة لدى طبقة مثقفة في المملكة المغربية وأيضا الجزائرية، ووصل الأمر في المغرب إلى طرح الموضوع تحت قبة البرلمان. الآراء الرافضة آخذت على المسلسل اعتبار طارق بن زياد عربي القومية، والصحيح أنه أمازيغي حسب هؤلاء. كما اعترضوا على أن الجيش الذي فتح الأندلس كان بمعظمه من الأمازيغ أو أهل المغرب العربي منطلقين من مدينة طنجة المغربية، وأن المسلسل بين أن المشرقيين هم الذين كانوا في قوام الجيش. منتجوا العمل بينوا في الرد أن الأصل العرقي لطارق بن زياد تتنازعه أكثر من رواية، البعض منها يجعله أمازيغيا من المغرب وأحيانا من الجزائر أو تونس والبعض الآخر يجعله عربيا ينتمي إلى الجزيرة العربية، وأنهم بنوا العمل على واحدة من هذه الروايات، الموجودة في بطون الكتب ولها شراحها ودارسوها وأكدوا أن الهدف الأسمى الذي كان يسعى إليه القائد طارق بن زياد يتجاوز مسألة أصله وجذره. أعمال تقارب الحقيقة التاريخية ولا تلتزم بها المسلسل الآخر الذي سبب جدلا حول الوثيقة التاريخية، كان “جوقة عزيزة”، فالكاتب وضع مكانا للحدث هو مدينة دمشق القديمة، ووضع لها زمنا وهو عامي 1929 والذي يليه. وارتكز إلى بعض الأماكن التي كانت موجودة ليقدم بعض الشخصيات الفنية والسياسية والاجتماعية التي كانت موجودة في الشام ومصر. وشكل بذلك هيكل الأحداث وبيئة المسلسل، لكنه في التفاصيل بنى قصة خيالية كاملة قوامها العديد من الشخصيات التي تتصارع فيها. ظهر في المسلسل حي اسمه شارع المرقص، فيه مدرسة لتعليم الرقص وكذلك مسرح (تياترو) لتقديم العروض الفنية. فاعترض البعض بأنه لم يكن هنالك هذا الجو في دمشق، وأن وجود تياترو يقدم عروضا فنية راقصة لم يوجد إلا بعد العشرات من السنين. ورد منتجو العمل بأن دمشق كأي مدينة في العالم فيها ملامح حياة خفية لا يعرفها إلا القلائل. وأن التاريخ سجل وجود هكذا أجواء في حينه. وكما يرى هؤلاء أن العمل لم يقدم حالة توثيقية عن مدينة دمشق في ثلاثينات القرن العشرين، وكان الهدف من المسلسل تقديم رؤية درامية شعبية في جو استعراضي. فعليا يمكن أن تقدم الوثيقة التاريخية جوابا حاسما على وجود أو عدم وجود هذا الجو في حينه، ولكن أصحاب الرأي الآخر يقولون إن الفن ليست وظيفته تقديم مادة علمية وثائقية عن قضية أو حدث تاريخي محدد. إلا إذا اختار منتجوه ذلك الشكل الفني وهو ما يسمى بالفيلم الوثائقي، الذي يقوم على تقديم وثائق تاريخية دقيقة وعديدة. لكن الجانب الروائي كما في مسلسل “جوقة عزيزة” يقدم حالة فنية تعتمد على بيئة تاريخية محددة، ثم يقوم الكاتب أولا ومن ثم كل منتجي العمل لاحقا بتقديم مشاهد فنية مفترضة تقوم على بيئة تاريخية وليس وثيقة تاريخية. وهذا ما يفسر قبول الناس عبر العالم أفلاما عالمية كبرى مثل يوليوس قيصر وكليوباترا وسبارتاكوس، وعربيا الأرض وعمر المختار ووقائع سنوات الجمر وأحلام المدينة، ومسلسلات مثل رأفت الهجان وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس وفتح الأندلس… وهي أعمال تقارب الحقيقة التاريخية ولا تقوم عليها كدليل مطلق. محاكمة عقلية هنا يثور سؤال هام ومفصلي، هل يجوز لكاتب درامي أن يضع شرطية مكان وزمان محددين ثم يقدم أحداثا وأجواء لا تأتلف معهما بالضرورة، فيكون مكان الحدث مثلا دمشق، وتكون الشخصيات التي تقدم الأحداث مغربية أو عراقية أو غير عربية أو تنتمي إلى أزمان عديدة بعيدة عن بعضها. فن المسرح حسم الأمر لديه، وقبل بهذا الأمر تحت مسمى مسرح التجريب، حيث لا حواجز ولا عوائق مكانية أو زمانية أو حكائية، والأهم فيه هو الوصول إلى فكرة محددة يريد إيصالها إلى الناس. وفي سبيل ذلك قد نجد متحاورين على الخشبة واحد منذ عصر الإغريق وآخر سائق سيارة أجرة معاصر، أو حدثا بين شخص ووالده المتوفى منذ العشرات من السنين. في مسرحية “شقائق النعمان” للكاتب محمد الماغوط كانت هنالك شخصية اسمها المرحوم عن شخص مات أداها حسام تحسين بك، وهي تتفاعل مع شخصيات حية بشكل طبيعي تماما. في هذا المسرح قد يدخل الممثل إلى الخشبة وهو يحمل قطعة إكسسوار ستكون معه في تأدية المشهد، ليقوم ممثل آخر بإخراجها لاحقا خلال مشهد لاحق، ويكون ذلك أمام الجمهور وبشكل تلقائي. لكل رؤيته للتاريخ في سينما المخرج أمير كوستاريسيا يكون التاريخ في شرطية خاصة. ففي فيلمه الشهير الذي حقق أرفع جائزة سينمائية عالمية هي السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1995 في فرنسا وكان اسمه “تحت الأرض”، يعيش المئات من الأشخاص في قبو بناء هاربين من خطر الحرب العالمية الثانية، ويعيشون هناك مدة تقارب العشرين عاما وهم لا يعلمون بأن الحرب انتهت. في العودة إلى الدراما السورية تغدو معظم أعمال البيئة الشامية عبر سنوات طوال منذ أيام شامية متقاطعة مع الوثيقة التاريخية وليست متطابقة معها، فهي تقدم شيئا من فضائها، لكنها لا تقدم وثيقة عنها، فقصة شوارب الفوال (عباس النوري) التي كانت عصب المسلسل قد لا تكون قد حدثت أصلا، لكن المجتمع تقبلها لأنه يعلم أنها قد تحدث. وفي مسلسل “جوقة عزيزة” شيء مقارب وفق هذه النظرية. فخلدون قتلان الكاتب قدم رؤية عن مدينة دمشق في ذلك الزمن، حيث يوجد تياترو يقدم عروضا فنية في الرقص والغناء، كون دمشق كأي مدينة في العالم كانت تعرف بعض الأمكنة المبعثرة التي كانت تعيش فيها بعض الغانيات والتي كان يرتادها بعض الرجال، وكان الموضوع مرفوضا من غالبية الناس في مجتمع محافظ، لكنه كان موجودا بالتأكيد. وضع مسلسل “جوقة عزيزة” بيئة محددة مكانيا وزمنيا ثم أعمل الخيال لكي يوجد شخصيات وحكايات تضمها. ويقول مؤلف المسلسل إنه لا يزور التاريخ بل يدفع المشاهد لكي يقوم بمحاكمة عقلية له ومن ثم متابعة التطور المنطقي للحدث وفق المحددات الموجودة، وأكد أن كل شخوص المسلسل خيالية افتراضية أراد منها إيجاد شخصية موازية لبديعة مصابني بدمشق، البطل في المسلسل هو المكان والزمان والقصة محتملة تدور في شارع البدوي بقلب دمشق، حيث وجدت هذه الأجواء، والمسلسل يقدم محاكاة لما قد يحدث.
مشاركة :