محنة أم منحة؟

  • 11/26/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مما لا شك فيه أن المؤمن لا بد أن يمُر بمِحَن كثيرة في حياته على اختلاف أشكالها وألوانها، ومواقيتها وآثارها، ومع ذلك الاختلاف تتحدد قوة التحمل والصبر والاحتساب. هناك بعض المحن التي نتعرض لها نظن أننا لن نبرأ منها بخير، وأننا لن نقدر على تحملها لدقيقة أخرى، ولكن ما يحدث هو غير ذلك. ينزل الابتلاء بقدر الإيمان وبقدر وُسع النفس على تحمله "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، ولكن جزعنا الآدمي واستعجالنا للفرج والنتيجة يجعلنا نندفع ونثور ونيأس. اليأس ليس أمراً بعيداً عن أي أحد "حتى إذا استيأس الرسل جاءهم نصرنا"، فاليأس نعم ليس أمراً شائناً، ولكن استمراره والغوص فيه وتركه يبتلعنا هو الأمر الذي لا يليق بالمؤمن. يغفل الناس أحياناً عن رؤية الجانب الصغير المضيء في كل مِحنة، وحده اليقِظ من يقدر على أن يستخرج النور من فم الظلام، وأن يشد الخيط الأبيض الرفيع من بين خطوط السواد الحالك المحيطة به، لكَم تعرضنا لمِحنٍ كثيرة ولولاها لما كنا في ما نحمد الله عليه الآن. لا بد أن نقف ونتساءل قليلاً: إذا لم تحدث تلك المحنة، ماذا كنت سأخسر الآن؟ ما الذي استفدته حقاً من هذا الأمر؟ سواء كان شيئاً صغيراً معنوياً أم اجتماعياً أم مادياً، لا شك أننا سنجد إجابات لتلك الأسئلة تبرد قلوبنا قليلاً. أحيانا كثيرة أتأمل بعض المِحَن التي مررت بها، وأحمد الله أني مررت بها حقاً؛ لأنه لولاها لما كنت الشخص الذي أنا عليه الآن، لما تبين لي ما كنت أغفل عنه قبل ذلك. المِحَن تساعدنا على استنباط حكمة الله مما يحدث حولنا، تجعلنا أكثر شفافية ورؤية، تقوي ظهورنا وتشد عضدنا وترينا حقيقة ماهية هذه الدنيا، وكيف أننا لا يمكننا الحصول على سعادة أبدية من دنيا فانية، تهيئنا لما يمكننا المرور به بعد ذلك، والأهم من ذلك كله أنها تزيد من رصيدنا الأخروي، ولو كان هذا فقط ما سنربحه من المحنة لكان كافياً. في كل محنة مما نمر بها نفقد جزءاً منا، من قوتنا البادية وإشراقتنا الدائمة، تبهت ابتسامتنا ويخفت النور الذي كان يضيء في أعيننا قبل ذلك، نشعر حقاً بنبضات قلوبنا الموجعة وينحسر الكلام في حلقنا لا نستطيع الإفصاح عنه، نظل نرقب السماء باحثين عن إجابة مُرضية لما يحدث لنا.. لماذا يحدث لنا هذا؟ ماذا فعلنا سيئاً لهذه الدرجة؟ لماذا لا يصيب الكافرين أو المُعرضين الغافلين ما يُصيبنا؟ نفقد جزءاً صغيراً من إيماننا الذي كان لا يزعزعه شيء، لكننا لا نعترف بذلك خوفاً من أن نكون من الجازعين أو استحياء ألّا نصبر على ما أصابنا، نذهل حقيقة عن السبب الحقيقي وراء هذا الابتلاء وإن لم يظهر لنا، ننشغل بالألم والحسرة عن التدبر والتفكير فيما سيحدث بعد ذلك، وما الحل لما نحن فيه الآن، غافلين عن إدراك حكمة الله النافذة لهذا الأمر. أحياناً يمكننا إدراك حكمة الله من هذا الأمر، وأحياناً كثيرة نعجز عن هذا ونظن حقاً أن لا حكمة إذاً من هذا الأمر على الرغم من أن قدرتنا الآدمية ستعجز أبداً عن إدراك الحكمة كاملة؛ لأن الله خالق هذا الكون يدبر كل شيء بطريقة تذهل لها العقول وتشرد! تنتابني القشعريرة حقاً عندما أتأمل موقفاً ما وأحاول ربط الأحداث والوقائع، فأجد تدبير الله العظيم الذي لم أكن سأدركه حينها، ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً وأغرقت نفسي في التفكير. أدرك كم أنا صغيرة جداً وضئيلة نسبة إلى عظمة الله وقدرته علينا، أستحي وأخجل من ظنوني الكثيرة بأن الله قد أنزل بنا البلاء ولن يرفعه عنّا. مررت أخيراً بمِحنة شديدة، يمكنني أن أطلق عليها مِحنة العمر؛ لأنني فقدت فيها الكثير منّي، فقدت جزءاً منّي ولم أستعِده حتى الآن، حاولت في بداية الأمر أن أنكر ما حدث، وأن أتسكن، وأنشغل بأي شيء حتى لا أشعر بالألم، ولم يجدِ ذلك نفعاً، مررت بعدها بمرحلة من الشك في ما يحدث لي.. لماذا يحدث لي أنا ذلك؟ ماذا فعلت؟ توارد في ذهني أنني لن أقدر على تحمل هذا الفقد. مكثت شهوراً أحاول أن أتبين الحكمة الإلهية من هذا الأمر، ولكنني لم أفعل ذلك حُباً، بل فعلته جزعاً وسخطاً.. ظننت أنني إذا تبينت الحكمة وأدركتها فسينجلي البلاء. مررت بأوقات دعوت الله فيها أن يثلج صدري بشيء أستطيع أن أتصبر به ولو قليلاً، لم أنفك أن أدعو بذلك حتى رأيت الأثر. تبين لي مع الوقت أني كان لا بد من أن أفقد هذا الجزء مني حتى أكتسب أجزاء أخرى كنت بحاجة إليها، بدأت ألحظ ما طرأ جديداً عليَّ إثر هذا الفقد، وكيف يمكنني أن أحوله إلى أمر جيد، كيف يمكنني كما يقول الكثيرون أن أخرج الإبداع من رحم المعاناة.. وقد كان. الآن ربما ما زلت أنتظر هذا الجزء ليعود؛ لكنني لن أجزع لفقده؛ لأن الله قد ملأ هذا الفقد بحكمته بطريقة لا أشعر الآن أنه كان يمكن أن يحدث بغيرها. اكتسبت من هذا الفقد أكثر مما خسرت حقاً، أدركت أن الله لا يأخذ إلا ليعطي، ولا يمنع إلا لحكمة لا نعلمها حينها، وأن المحنة تطوي في داخلها مِنحة لا ندركها بعقولنا المجردة وأفهامنا الضئيلة.. مِنح خفية نلحظ آثارها لاحقاً "فكمْ للهِ منْ تدبيرِ أمرٍ طوتهُ عنِ المشاهدة ِ الغيوبُ". النظر في نصف الكوب الممتلئ ليس دائماً أمراً مستحيلاً، يمكننا أن نستخرج النور حقاً وإن عجزنا عن ذلك في بداية الأمر، لكننا في النهاية عندما تنجلي المحنة سيضيء مصباح صغير بداخلنا فجأة، ليخبرنا أنه لولا حدوث هذا الأمر الذي تمنيت زواله لما كنت في ما أنت فيه الآن، سيُعلمنا أن نتحرى حكمة الله في كل صغيرة وكبيرة، سيخبرنا أنه لا بأس إذا فقدنا جزءاً منا أحياناً؛ لأن الله قادر على أن يزرع مكانه أجزاء أكثر ازدهاراً. سنتعلم أنه لا بأس إذا لم ينتهِ الأمر كما نريد ما دمنا قد أدركنا ما نريده بقلوبنا وتركنا النتائج تأتي كما أرادها الله. فلنتوقف عند كل أمر قليلاً ونتساءل: هل هذا حقاً مِحنة أم مِنحة؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :