خلال الكلمة التي ألقاها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أمام نادي شيكاغو الاقتصادي والتي أعقبت القرار الذي اتخذه الرئيس ترامب القاضي بإعلان القدس عاصمة لاسرائيل ، عطفا على نقل السفارة الأمريكية الى القدس ، تحدث الرئيس الذي تجرأ على الامل ، وإن تبين لاحقا انه كان أمل واهي ومغشوش عما أسماه الخوف من ظهور ” هتلر ” جديد في الداخل الأمريكي ، وأنه على الأمريكيين اليقظة عند إختيارهم من بين المرشحين للمناصب الكبرى في البلاد لا سيما منصب الرئيس . الذين يقدرون على فك شفرة حديث أوباما يعلون تمام العلم أنه يقصد بكلامه هذا الرئيس ترامب ، والذي بات يمضي في أتجاه مخالف لغالبية الأمريكيين الذين أنكروا عليه ما فعله مؤخرا . يعن لنا أن نتساءل في موضوعية :” هل اوباما هو ” نبي العدالة وحارس الديمقراطية ” المنوط به الحفاظ على تراثها وقيمها ، أم انه كان إحدى أدوات النقمة على أمريكا في الداخل وعلى العرب والفلسطينيين بنوع خاص ؟ الذين أستمعوا إلى أوباما تحت قبة جامعة القاهرة الشهيرة في يونيو من عام 2009 ، خيل أليهم أنهم أمام الفارس الذي سيعيد للعرب والفلسطينيين أراضيهم المحتلة ، ويحرر قدسهم السليب ، غير أنه ومن لحظتها قلنا للعالم برمته أننا أمام رجل يجيد صناعة الكلام دون أدنى مقدرة حقيقية على الفعل ، وفيما هو ذاهب بعد ثماني سنوات كان يترك القضية الفلسطينية من وراءه في وضع أسوا مما كانت عندما تسلم قيادة بلاده ، وربما تجاوز في دعمه لإسرائيل أسلافه من الرؤساء الأمريكيين. خلال حملته الانتخابية الرئاسية تشدق ترامب بانه القائد القادر على صياغة سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، لكن الوعد كان ملغوم بمغازلة تيارات أمريكية تنكر على الفلسطينيين حقوقهم التاريخية بالمرة في أرض فلسطين ، وتتوقف طويلا أمام روايات التوارة التي تجاوزتها المسيحية بعد مجيئها ، وأنتهى ما عرف بالشعب المختار ، وبطل الوعد الذي كان بالأرض من الفرات إلى النيل ، بل أن ثقات المسيحية وكبار لاهوتييها يرون أن قيام دولة إسرائيل إنما هو نتاج إرادة بشرية صعر فيها اليهود وجوههم لزعماء العالم ، ولم تقم الدولة العبرية ولن تقوم بإرادة إلهية بالمرة . لم يختلف ترامب عن أوباما كثيرا ، وظهر جليا منذ أيام أن كلاهما وجهان لعملة واحدة وأنهما رئيسان أحلاهما مر ، وحلان كلاهما أعرج . طرح القضايا المصيرية أبدا ودوما يبدأ من الذات وليس من الآخرين ، فهل أخطا العرب حينما راهنوا على أمريكا كقاضي وجلاد معا ؟ هل أخطأوا عندما أعتبروا أن 99% من أوراق اللعبة في أيدي الولايات المتحدة الأمريكية ؟ مهما يكن من أمر الجواب فإن البكاء على اللبن المسكوب لا يفيد ، لكن التعلم من دروس التاريخ هو الأمر الذي يقوم به العقلاء والفهماء … ثم ماذا ؟ يمكن الجزم بأن ترامب أضحى اليوم ” رجل ضد العالم ” حتى أصدقاء أمريكا التاريخيين وحلفاءها التقليديين في الناتو اصبحوا ضده ورفضوا قراراته الأخيرة ، ومن هنا يمكن للعالم العربي وللفلسطينيين التفكير بعقول باردة غير ساخنة . لم يعود التعويل على أمريكا ينفع أو يشفع ، لقد أنتهى دورها غالب الظن مرة وإلى الأبد ، وأضحت الزعامات الأمريكية المتباينة تعزف زورا وبهتانا أنغاما كاذبة على تاريخ القضية وعدالتها . لم تعد التظاهرات العشوائية ولا الخطب الرنانة عطفا على الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة تجدي ، بل أضحى التفكير العقلاني هو الطريق للخلاص من مأساة أربتباط القضية الفلسطينية بالولايات المتحدة الأمريكية ببنوع خاص . من حسن الطالع أن العالم لم يعد أمريكيا ، والأخطاء التي أرتكبها باراك أوباما بنوع خاص فتحت الأبواب واسعة أمام أطراف دولية أخرى ليكون لها تاثير فاعل في المنطقة . ترك أوباما خلفه مساحات واسعة ملأها خصمه العنيد ، القيصر الجديد فلاديمير بوتين ، ومن وراءهما يسعي الرئيس الصيني بتؤدة ولكن بقوة إلى تغيير شكل العالم عبر طريق الحرير ، وقوى أمريكا اللاتينية من أصحاب الحديقة الخلفية الجغرافية باتوا ناقمين على السياسات الأمريكية ، فيما كندا الجار الأكبر والأقرب يفارق بعيدا جدا عن سياسات ترامب العنصرية. أوربا بدورها ودولها المركزية ، ألمانيا وفرنسا ، وحتى بريطانيا ، تقف صفا واحدا رفضا للأحادية الأمريكية التي لا تسعى الإ لخدمة إسرائيل . القوى الروحية حول العالم وفي مقدمتها الجالس سعيدا على كرسي ماربطرس بابا روما فرنسيس الثاني يرفض تغيير أوضاع المدينة المقدسة ، ويرفض الأجراءات الأمريكية ، ومن وراءه يقف مليار ونصف المليار كاثوليكي حول العالم . السؤال الآن ..كيف نحول نقمة ترامب إلى نعمة ومحنته الى منحة ؟ أصحاب العقول العادية يعرفون الاستفادة من المكاسب ، أما المبدعين والاذكياء فهولاء هم القادرون وحدههم على تحويل ” الخسائر الى مكاسب ،والليمون اللاذع ” إلى شراب ” حلو المذاق “. اللحظة الآنية هي لحظة دعم دولي وإنساني للقضية وللشعب الفلسطيني ، ولعدالة مدينة القدس ، تلك التي ترنو لها أبصار المؤمنين ، من أتباع الأديان الأبراهيمة من طنجة إلى كراتشي ، ومن سان بطرسبرج إلى سان فرانشيسكو . فات ترامب رجل الصفقات العقارية ، منبت الصلة بعالم الأفكار والدراسات المعمقة أن القدس ليست قضية سياسية حول مدينة ، بمعنى أنها ليست صراعا نسبيا ، بل هي قضية مطلقة لما لهذه المدينة من إرتباط روحي عقائدي دوجمائي بنصف العالم تقريبا ، فيما النصف الأخر يحترمهم. ينبغي أيضا الإشارة إلى أمر مهم، وهو يجب أن لا نخسر الشعب الأمريكي سيما وأن نسبة بلغت نحو 70% من الأمريكيين أظهروا خلال أستطلاعات رأي مختلفة جرت الأشهر القلية الماضية ، دعما للقضية الفلسطينية ورفضا لإجراءات ترامب ، بل أن مستشارين كبار داخل إدارة ترامب نفسها خالفوه الراي ، ولهذا يبدو اضحا أن هناك صفقة خفية في مسالة نقل السفارة الأمريكية. هل يشكل العرب لجنة من أفضل العقول تفكيرا وأبلغها أثرا في مخاطبة العالم ونقل القضية إلى عواصم العالم وصولا إلى مجلس الأمن ووضع ترامب وإدارته أمام استحقاقات التاريخ وحكمها عليه؟.
مشاركة :