هي نصوص كتبها سمير الصايغ مواكب حروف وقوافل معانٍ تعبر أطيافها مرايا الزمن، بكينونتها الخاصة وحميميتها ودعاباتها وقفزها في فضاء من هواء وأحبار وارتماءات على سطوح مائلة كأنها حافات الوجود. هي إذاً نصوص مكتوبة بعفوية مطلقة على متون أوراق متعددة الأحجام والأشكال، والكتابة لدى الصايغ أحياناً ليست سوى شكل مدون من أشكال القراءة، هي القراءة بالعين واليد، التي تهيم في أفلاك شعراء الصوفية. لم يكن يفكر يوماً أن هذه الكتابات التي لطالما عاملها على أنها محفوظات سرّية فيها هوى النفس والدهشة والحب والمزاج، ستشكل نواة معرض نظمه الثنائي كارما طعمة وطوني صفير في صالة Plan BEY مرفقاً بإصدار أربعة كتب فنية شبيهة بالمخطوطات ولكن بتصاميم معاصرة هي: «شطح الكلمات ومشق الحروف» و «ما بعد» و «الدفتر الأزرق» و «الدفتر البني»، ضمن إصدارات محددة (25 نسخة)، غالبيتها مصممة من الكرتون المقوى مع طباعة حريرية، لا وجود فيها لأي حرف طباعي، بل تم احترام خط يد الفنان حتى في المقدمات. تتميز هذه الكتب في شكل المخطوط المصنوع صناعة يدوية من حيث الخياطة والطباعة وطريقة جمع الملازم بخيوط ظاهرة عمداً، مما أضفى جمالية خاصة على هذا النوع من فن الكتاب، الذي ليس إلا المحتوى الظاهري لفن تقاسيم الكتابة نفسها على أنها حروف ليلها نور وتقاطيعها من فلسفة التأمل والفيض الروحاني. وإن كان لكل كتاب مقترب عاطفي وسلوكي في مداده ومصابيح أنواره وألوانه، فإن كتاب «شطح الكلمات ومشق الحروف» هو الوحيد الذي يحوي نصوصاً واضحة، بعضها أنجز بقلم الرصاص، أو بريشة رفيعة وتلاوين محدودة، فتبدو مندرجة بشكل مستقيم أو مائل أو عمودياً وفق الطريقة اليابانية، وفي كل صفحة يختار الصايغ حرفاً دالاً على الكلمة المفتاح التي تفتح نوافذ القلب على فضاء التأويل. ومجموع هذه النصوص اختارها سمير الصايغ من مأثورات معلمي المتصوفة، فكتبها بخطه، لا للتزيين والزخرفة بل من باب التأمل والرغبة في مزيد من الحِفظ والشوق والتعمق. يقول الصايغ: مع النّفري «في المواقف والمخاطبات» نقف أمام اللغة في أقصى قدرتها على التعبير وأقصى عجزها. فصفاء هذه اللغة هو انغلاقها أو انمحاؤها، وتجليها هو في الوقت نفسه غيابها» واللغة يجدها الصايغ في مواقف النّفري هي الرؤيا والمعنى والموقف والمشاعر والتخيلات حول حقائق الإنسان ومعنى الوجود وعلاقته بالغيب... وهكذا بين الحضور والاختفاء، الوجود والغياب، الله والحجاب، تلمع الحقيقة كبرق خاطف كنور باهر في سماء الروح. وإذا كان النّفري يجيء إلينا من ضيق العبارة: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» فإن ابن عربي يجيء إلينا في مؤلفه «مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية» من تعدد تجليات النقطة على محيط الدائرة ليعيدنا إلى نقطة مركز هذه الدائرة وهو الحق. فالحروف هي عالمٌ قائم بذاته أو أمةٌ من الأمم على حد قول ابن عربي وهي مظاهر لتجليات الحق الواحد. أما عبد الكريم الجيلي فهو يتجاوز الشطح الصوفيّ في وقوفه أمام النقطة ليتناولها كنقطة في المطلق، كحقيقة كبرى يمكننا في كشف معانيها النفاذ إلى حقائق الوجود، فالحروف ما هي سوى نقطة إزاء نقطة، وليس الحرف سوى مجموع نقط. والجيلي يقيم لهذه الرموز أو الاستعارات نظاماً فلسفياً ينضم إلى نظام وحدة الوجود. حروفيّ من زمن الكبار سمير الصايغ جاء إلى الفن كاتباً وليس فناناً تشكيلياً، وشاعراً متصوفاً قبل أن يكون محترفاً مهنياً، وخبيراً متمرساً في تطويع ملكات الحروف التي تفتحت مداركه عليها في كونها أداة التعبير الوحيدة التي يمتلك فصاحتها ولسانها كما يمسك بنواصيها ويعرف طبعها وأحوالها وأنسابها وكيف يروضها ويحلّق بها إلى جماليات التأليف والتصميم الغرافيكي المعاصر. هكذا أعطى الصايغ لكتاباته طرازاً خاصاً في أسلوب مغاير عن فناني جيله، وهو الذي أخذ الحرف من مجاله الأدبي إلى مجاله البصري- التشكيلي الاختباريّ، فحرّر الحرف من المعاني والألفاظ في استذكار القلقشندي: «الحروف دالة على الألفاظ والألفاظ دالة على الأوهام»، لذا كتب الحرف لذاته، لجماله المستقل، لغناه وتنوع إيقاعاته وموسيقاه الداخلية، وهو الذي انتقل من عملية كتابة النص إلى الكلمة ثم الحرف بحضوره الهندسي الآسر، فوهبه شيئاً من الكينونة فجعله كقطعة تنهض من زخرف برّاق أو كبنيان مستمد من الخيال ومن بتلات اللون المشبع القوي، أو كحلية من ذهب الكنوز وأزرق البحار. أعاد الحروف إلى بساطتها الأولى، إلى عالم الرؤية وحلم النقطة وامتشاق الألف، وسفر الواو وعين القلب، وحسن التدبّر، هكذا وصل مساره إلى منطق التفكيك (فلسفة جاك دريدا) للكلمات وللسياقات اللغوية بحثاً عن الحقائق أو أوهامها. لكأن الصايغ يغوص متعمقاً في مكوّنات الحرف نفسه، بتفاصيله وأجزائه، فيأخذ قبساً من ناره، ويحيطه بظلال ليست إلا ظلاله، إذ ما بين القوس اللين والشكل الهندسي، وزوايا النقطة تذوب الفروقات، كما تذوب لطخات الحبر في ضربات الفرشاة العريضة وتشف عن بياضها وتتراجع أمام حضرة الأسلوب الذي يُعنى ليس بالحرف وحده، بل برشاقة حضوره وحركته في الفضاء المجرد. كل الطرق التي سلكها سمير الصايغ من قبل، في تطويع عالم الحروف وفلسفة حضورها وكيانها، باتت تفضي إلى درب واحدة... ألا وهي ذات الكاتب والشاعر والفنان.
مشاركة :