يتراوح كتاب سمير الصايغ «ألف بحروف كثيرة» (دار كاليغراف - بيروت) بين كونه نصاً شعرياً مشرعاً على مصادفات الرؤيا الصوفية التي تنطلق من حلقة الحروف وفي مقدّمها الألف، وبين كونه نصاً تأملياً يسبقه مدخل شبه نظري يمهّد للتجربة التي اختبرها الشاعر اختباراً عرفانياً وفنياً، روحياً و»جسدياً» في آن واحد. يشعر القارئ انه حيال عمل يتآلف فيه سمير الصايغ الشاعر الذي طالما عرف بنزعته الصوفية، وسمير الصايغ الخطاط الذي جعل من هذا الفن القديم فعلاً إبداعياً بذاته، ومن الحرف، بعدما حرره من أسر الخط والجملة والكلام، غاية وأداة. وفي غمار هذا الاختبار المتعدد الحقول، أضحى الحرف ذاتاً من غير ان يتخلى عن مادته أو جسده الذي هو أولاً وآخراً مرآة تجلياته. إلا ان الشاعر الصوفي المنبت والانتماء، يستسلم للفنان ذي المراس التجريبي الصعب في خلق الحروف ومعاودة خلقها وفتح آفاقها الشكلية والهندسية إن جاز القول. فالبصيرة الكامنة في عمق الروح يكشفها البصر، والعين «الداخلية» بحسب رامبو تفضحها العين التي من حس ورؤية، من ظلال وألوان، أما السريرة الصوفية فهي تخرج هنا الى وضح الشمس لتسرّ بنفسها وتفيض.ا ليست الألف التي اختارها الشاعر عنواناً لكتابه حرفاً، مجرد حرف، إنها الاحرف كلها وذاكرتها الغابرة. إنها كمثل البيت الذي بمنازل كثيرة، وفق مقولة يسوع الناصري، حرف الاحرف، الحرف السليم وغير المريض، كما يعبر ابن العربي،»علة وجود الحروف» كما يقول الصايغ لا سيما في الخط. والألف إشارة يشار بها الى «الذات الاحدية» أي «الحقّ» بحسب أهل الصوفية، الحقّ بصفته «الاول في أزل الازال». هذه الالف جعلها بورخيس، الكاتب الارجنتيني الكبير، عنواناً لكتاب له يضم قصة بالعنوان نفسه، وهي كما يقول بطل القصة «نقطة في الفضاء تحوي كل النقاط». إنها الواحد والكثرة، الطائر الذي هو كل الطيور أو السيمورغ في ملحمة فريد الدين العطار «منطق الطير». لكنّ الالف في صنيع الصايغ تتحرر من شرطها اللغوي لتصبح علامة اشراق فني ولوني، مثلها مثل سائر الحروف التي تضمرها، الحروف التي تتلون، «تدخل الليل لتصل الى النهار وتلج العتمة لتلاقي الضوء». في المقدمة التي استهل الصايغ كتابه بها، لا ينفصل الكلام في شأن الخط والحرف عن بعده الاختباري ليصبح كلاماً نظرياً صرفاً. فهو خلاصة عيش التجربة ومعاناتها. ولم يلجأ الشاعر الى الكتب ليضع معايير نظرية على رغم ثقافته العميقة في الحقلين، الحروفي والصوفي. إنه الكلام في قلب التجربة وليس على من خارجها. فالخط بنظره لا يسعى الى إيضاح معنى اللغة ولا الى تحقيق هدفها أو غايتها الاصطلاحية. الخط يهدف الى تحقيق غايته المستقلة عن اللغة والتعبير اللغوي. ليس الخط هنا وسيلة لغوية وإلا فهو يخسر«حضوره كفن مستقل بذاته». الخط يسعى الى الحقيقة عبر طريق يختلف عن الطريق الذي تسلكه اللغة عادة. الخط يسلك طريق العين والخيال والحس والقلب. هو «يخون اللغة في الظاهر ليتوحد معها في الباطن». اللغة لها صوت وإيقاعها لفظي، اما الخط فله الشكل واللون. اللغة تتوجه في ما تتوجه اليه، الى الاذن، الخط يتوجه الى العين ومحيطها. يندفع الخط الى التشكيل اوالتأليف البصري ذي العلامات الخاصة به، مانحاً بصفته فناً، فرصة للحرف كي يعبّر عن نفسه وليرسخ وجوده وكينونته المنفردة بذاتها، ومحرراً إياه من شروط اللغة وارتباطه بها وبالتالي من خضوعه للكلمة والمعنى. يتخلص الحرف من رمزيته المشروطة في كونه وسيلة لغوية وكتابية ليصبح غاية نفسه ووسيلة نفسه. لم يبق وجود الحروف وقفاً على معنى الكلمات. إنها تخلق معانيها الغائبة بحضورها الفني واللوني. إلا أن مشروع سمير الصايغ المتجلي في كتابه كما في فنه لا يقتصر على هذا المنحى فهذا المشروع يتجاوز أيضاً قواعد الخط العربي وتقاليده ومعاييره الراسخة تاريخياً وجمالياً وعقائدياً، ومنها ما يسمّيه «النسب في حسن الشكل» من توفية وإتمام وإشباع وإرسال. والحروف لديه إذا ما التقت بعضاً ببعض عند «حدود حسن الوضع»، فهي تتخطى الترصيف والتأليف والتسطير والتنصل... وهذه بعض معايير فن الخط التقليدي التي اتقنها الصايغ ودرّسها أكاديمياً. لكنّ هذه الحروف تحافظ على جوهر جمالية الخط وفلسفته الفنية، على أنّ قيم هذه الجمالية لا بد من أن تتجلى في صميم الالوان والاشكال والهيئات الجديدة وغير المألوفة. الألف على سبيل المثل «ستذهب في الامتداد أو في الانحناء بحرية مطلقة. قد تنحني كانحناء أغصان الصفصاف أو تُسرع كما يُسرع ضوء الفجر». والحروف جميعاً ستنسج علاقات في ما بينها كما يشير الصايغ، الالف مع الجيم مع الدال وسواها في ما يشبه «العناق الشديد والتماس الساحر أو التماثل الملتبس»، وكأنها في حلقة ذكر. والحرف المتحرر من اسر اللغة الذي وصف سابقاً بالصمت أوالخرس، يكسر صمته لينطق نطقاً إيقاعياً وبصرياً وحركياً ولونياً وطربياً في المعنى الوجداني الشرقي. موسيقى اللغة بوحداتها (الفونيم والمونيم...) تستحيل موسيقى صامته تتفجر في العين واللون والرقص الذي تمارسه الحروف. منح رامبو في قصيدته الشهيرة «فوايل» (أحرف صائتة أو أحرف علة) الاحرف الوانا في لعبة شعرية معروفة بـ «تراسل الحواس»، اما الصايغ فيدخل في حوار مع الاحرف، شعري ولوني ورمزي. «الى أين تمضي الميم في اول هذا البياض؟ إنها ليل اسيقظ باكراً / ليل اسود يعشق البياض».اما الباء فتسأل: «أهوالليل نفسه الذي حاصرنا في المرة الاولى؟». النون بدورها تسأل عن نقطتها : أين ستقف، على رأس البداية أم تنزل الى وسط الجوف أو تعلو كنجمة صبح؟». ويخاطب الشاعر النون قائلاً: «يا نون اول النار/... أمن الرماد تولدين من جديد / نوناً لأول النور؟». ويمضي في إسباغ الصفات والوقائع على الاحرف: الجيم للجنة وللجحيم، الطاء طاء الطريق، السين للسحاب، الميم للمنام، القاف اول القمر، الكاف حظ الكمال والكفاية... الشين للشوق والدال للدموع والحاء للحنين والقاف لقصب يأسر أرواحنا، الصاد للصنوج والميم للمزمار... ولا تتوانى الالف عن مخاطبة النفري: «لك الشكر لقد استثنيتني من بين الحروف وميزتني وسمّيتني الحرف الصحيح غير المريض»، وتذكره بما قال عنها: «الحروف كلها مرضى إلا الالف. اما ترى كل حرف مائل ، أما ترى الالف قائما غير مائل؟». اما الباء فتخاطب الحلاج انطلاقا من كتاب «الطواسين». قد لا يبدو سمير الصايغ بعيداً في ثورته الحروفية، الشعرية والتشكيلية، عن منابت فن «الكالليغرام» الشعري الذي كان الشاعر الفرنسي ابولينير رائده في القرن الحديث وهو شاءه «خلاصة الفنون، الموسيقى والرسم والشعر». فالحروف تحولت تحت ريشة الصايغ الى رسوم وأشكال وصور وعلامات وعناصر ايقونية ونصوص بصرية ذات ابعاد غنائية وإيقاعية ورمزية، تتجلى وتتحرك وسع الفضاء «المكاني» المفتوح (القماشة والورقة). ومعروف ان الشعر المرسوم بالحروف كان مجالاً رحباً للتجريب البصري والرمزي وقد خاضه شعراء كبار من أمثال الفرنسيين مالارمه وهنري ميشو والمستقبلي الايطالي ماريناتي والاميركي كامنغز، ناهيك بالشعراء الجدد في العالم. وقد أصدرت دار «الدنتي» الفرنسية عام 2010 انطولوجيا ضخمة ضمت نحو اربعمئة قصيدة تصويرية وبصرية. وكان ممكناً بسهولة ان يكون سمير الصايغ واحداً من شعراء هذه الانتولوجيا، ولكن على تفرد وفرادة نابعين من تجربته التي جمعت بين الحروفية والشعر والصوفية، جمعاً جمالياً وعرفانياً. آداب وفنون
مشاركة :