عازف الناي

  • 11/28/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يحكى أن أطفال هاملن الألمانية ساروا قبل قرون بعيدة خلف عازف الناي الذي فتنهم بعزفه، فانقادوا خلفه مسحورين ليختفوا إلى الأبد خلف جبل كبير يقع عند أطراف المدينة، وأنهم ما زالوا يعيشون حتى يومنا هذا خلف ذلك الجبل في غابات وحدائق سحرية، يحمل نسيمها ألحان عازف الناي إلى مسامعهم في عالم أسطوري تلفه الخرافة والخيال، لتبعثر وقائعه وتضفي عليها ظلال الغموض والسحر والخرافة. فهل تعكس مثل هذه الحكايات وصفا لوقائع حدثت بالفعل في قديم الزمان ثم تناقلتها الأجيال وغيرت في ملامحها فأخذت شكل حكاية خرافية جميلة روتها الجدات في مساءات خلت؟ وهل يمكن أن نسقط هذه الأساطير على واقع اليوم لإجراء بعض المقاربات بينها وبين أحداث نحن شاهدون عليها في يومنا هذا؟ قد يتساءل البعض كيف سنقارب بين قصة عازف الناي وبين واقع اليوم؟ ولكني أرى أن كثيرا من المجريات حولنا تشبه كثيرا قصة عازف الناي، فما نراه اليوم من اصطفافات سريعة حول قضايا كثيرة دون الالتفات إلى أهمية البحث في مصادرها أو التعمق فيها وتحليلها وجمع المعلومات عنها قبل اتخاذ موقف ما أو تشكيل رأي معين، تشبه إلى حد بعيد الانقياد المسحور خلف عازف يسير بنا إلى وجهة لا نعرف مصيرها ولكننا مع ذلك نسير خلف المجهول باستسلام تام. نظرية التأطير هي نظرية مهمة في علم الإعلام تعني أن يُقدمَ المُنتَج الإعلامي للمُستهلِك ضمن إطار معين لإحداث أعمق تأثير ممكن فيه، فقد يؤطر المنتج مثلا بإطار وطني أو إنساني أو أخلاقي أو حتى ديني، ليصبح سلعة يتهافت عليها المستهلك وهو هنا جمهور وسائل الإعلام، فعلى سبيل المثال فقد دعا بوش الابن الأمركيين لخوض الحرب على العراق البعيدة، ضمن أطر عدة: فتارة جاءت دعوته في إطار ديني، حددت حربه بصراع بين الخير (أمريكا) والشر (العرب والمسلمون) وجعل من أمريكا منحة الرب المقدسة لكل البشر. وتارة أخرى جاءت في إطار أخلاقي دعا من خلاله لخوض حرب لتحرير العراق من الطغاة ولنشر الحرية والديمقراطية فيها. ولن ننسى الإطار الأمني الذي أقنع العالم عن طريقه بأنه سينقذهم من الدمار الذي قد تسببه أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق ويتحكم فيها صدام. أثرت هذه الخطابات في كثير ممن خاضوا الحرب وهم يعتقدون أنهم يقومون بواجب مقدس نحو قيمهم ونحو إنسانيتهم، ولم يدركوا الكذبة الكبيرة التي مورست عليهم إلا بعد فوات الآوان هذا إن أدركوها فعلا. النظرية تنطبق أيضا على من يمارسون التضليل لتجنيد الشباب والفتيات للانخراط في التنظيمات الإرهابية، فهم يخاطبونهم بخطاب مؤطر بإطار ديني شديد التأثير وعميق، فيقنعونهم بأنهم يمارسون أسمى أنواع العبادة في الجهاد في سبيل الله والسعي نحو الشهادة التي ستوصلهم إلى جنات الخلد حيث الحور العين وأنهار الخمور واللبن، ويغمضون أعينهم عن فظاعة القتل وبشاعة الحرب ودموية الصراع. قد تؤطر الرسائل والخطابات بأطر كثيرة يجيدها الخطباء المفوهون، ولكن أخطر أنواع الأطر على الإطلاق هو الإطار الديني الذي يغلف الخطاب بغلاف جذاب يدخل إلى النفوس التي هي مستعدة أصلا لاستقباله دون أن تخضعه لكثير من المنطق أو التحليل، فيلقى بذلك ترحيبا في النفوس خاصة تلك الطيبة التي جبلت على طاعة الخالق وحب العبادة، فهي تُقيّم معظم أنواع الخطابات الدينية بتقيمات إيجابية فيحظى الخطاب وصاحبه بالقبول والاحترام والتقدير عند الغالبية العظمى من هؤلاء، وفي كثير من الأحيان لا يبقى هناك شك في خطابات أشخاص محددين فيقبل منهم الجمهور معظم الأفكار حتى تلك التي يمكن أن يقفوا عندها طويلا ويقاوموها لو صدرت من أشخاص آخرين. نعم يا سادة هذا هو سحر الخطاب وسحر الخطيب الذي يمارس على الناس في وقتنا الحاضر فنرى انقسامات كثيرة في رأي عام يتشكل بسهولة حول قضية معينة، لدرجة أن هذا الرأي العام قد يشكله شخص أو جهة معينة دون جهد يذكر لينقاد خلفه كثيرون مدافعون وغاضبون وهم لا يستندون إلى معرفة حقيقية مبنية على قراءات أو تحليلات أو علم، وقد يتحول موقفهم هذا إلى فعل جماعي كاعتصامات أو مظاهرات أو مشاجرات يشترك فيها أشخاص غير معنيين بالحدث بشكل مباشر ولكنهم رغم ذلك يجدون أنفسهم منخرطين فيه إلى حد المشاركة بالفعل الناجم عنه. نحن مجتمعات تحركها العصبية بشدة للأسف وتؤثر فيها، لذلك لا بد من التنبيه إلى ضرورة بناء وتشكيل الرأي العام حول مختلف القضايا بتوفير المعلومة الصحيحة وبحثها وتحليلها من قبل أصحاب الاختصاص، وبحث أثر أي قضية أو ظاهرة على المجتمع، لدرء المفاسد والمخاطر ولخلق حالة مجتمعية واعية تهتم بتشكيل الرأي العام القائم على التحليل المنطقي والبعيد عن كل التعصبات الفئوية والجهوية والطائفية والعقائدية، رأي يبنى على أسس واضحة تتناول القضايا بمنهجية علمية وتقترح لها الحلول العادلة القريبة من كثير من فئات المجتمع، حتى لا يترك هذا المجتمع فريسة لأصحاب الأجندات الذين يجيشونه لمصالحهم فيسير معظمهم خلفهم وخلف أجنداتهم كما سار الأطفال مسحورين ذات غفلة خلف عازف الناي.

مشاركة :