لا شكّ في أن البلدان والمناطق التي تشهد حروباً طويلة، تكون النساء خصوصاً، وبحكم وضعهن الاجتماعي، من أكبر دافعي ضرائب تلك الحروب، على رغم أنهنّ غالباً لا يشاركنّ بها مباشرة، لكنهن للأسف أوّل من يَجْنينَ تبعاتها المُرعبة من قتل وخطف واغتصاب، إضافة إلى معايشتهنّ مقتل أطفالهن أو أزواجهن وإخوتهن، عدا عن التهجير والنزوح وفقدان الخدمات العامة الأساسية للحياة، ما يتركهنّ عرضة وفريسة سهلة لمشاعر الخوف والحزن والاضطرابات النفسية المتعددة، وهذا بمجمله يندرج تحت مفهوم العنف بألوانه المختلفة المتمثّلة بـ: -العنف الجنسي القائم على الاغتصاب لأسباب تتعلّق باعتبار المرأة أحد أسلحة الحرب التي تتمُّ من خلالها إهانة الخصم، فالمرأة في مجتمعاتنا حاملة لواء شرف القبيلة وذكورها من جهة، ومن جهة أخرى تستغل في الترويح عن المُقاتلين عبر ما سُميّ (جهاد النكاح) في ظاهرة فريدة من نوعها عبر تاريخ الحروب. وكذلك الدعارة القسرية من خلال شبكات الاتجار الدولية أو المحلية، أو الدعارة الطوعية الناجمة عن حاجة مادية أو معنوية. وهنا أقول إننا لم نعد بقادرين على إطلاق حكم أخلاقي على الدعارة المنتشرة في المجتمع في شكل لافت، وهذا بحدِّ ذاته أقسى أنواع العنف. كما يندرج تحت هذا البند الزواج القسري لطفلات صغيرات في مقابل المال. - العنف الاقتصادي الذي يُسببه تسلّط قلّة من المُحتكرين المُتحكمين بقوت الناس وعملهم وتفرّدهم، ما وَضَعَ المرأة التي باتت المسؤولة الوحيدة عن إعالة الأبناء والأهل، في ظروف معيشية قاسية ومريرة من حيث الحاجة إلى مكان يؤويها وأطفالها، وإلى لقمة العيش التي بات تأمينها أمراً صعباً وقاسياً في ظلّ غلاء يستحيل معه تأمين ما يسدُّ الرمق، ما عزّز زواج القاصرات بحجّة تقليص نفقات إطعامهنّ وتعليمهنّ. كما أن انعدام فرص العمل أمام المرأة، دفعها من جهة لإقتحام مهن وأعمال كانت حتى فترة قريبة حكراً على الرجال، ومن جهة أخرى عززت البطالة استغلالها في أعمال وضيعة وبأجر لا يكفي لوأد الجوع (عصابات التسوّل مثلاً). فبات مشهد المرأة بصحبة أطفالها متسوّلة في الشوارع ليل نهار أمراً عادياً لم يعد يحرّك الوجدان الاجتماعي أو الرسمي، ولا واضعي شرعة حقوق الإنسان. - العنف الاجتماعي والأسري والمتمثّل بانعدام الألفة والرحمة من المحيط الذي لم يُقدّر حجم المعاناة والمسؤولية الواقعة على كاهل المرأة، لاسيما في ظلّ سكن عائلات بأكملها في مكان ضيّق، ما يُفضي إلى مشاحنات ومشاجرات أسرية دائمة، قد تؤدّي في نهاية المطاف إلى الطلاق في حالات كثيرة. وقد ارتفعت نسب الطلاق في سنوات الحرب إلى مستويات مرعبة تُهدد كيان الأسرة والمجتمع السوري لاحقاً. وهناك أيضاً عنف أسري آخر يتمثّل بتسلّط الجّدّ أو الأعمام على ميراث الأب أو راتبه بعد استشهاده، فيحرمون الأم من إمكان إعالة أبنائها لاسيما في ظلّ عدم وجود ابن ذكر، مُستغلين وصايتهم الشرعية على الأبناء والتي حرمها القانون منها. إضافة إلى رفض أهل الأم احتضان أطفالها بحكم ضيق الوضع المادي والسكني، ما يضطّرها في حالات للتّخلي عن أبنائها لذويهم. وهناك حالات قد تتعرّض المرأة والفتاة فيها للاختطاف بغية حصول الخاطفين على مبلغ من المال، من دون أن تتعرّض للاغتصاب أحياناً، لكنها، وحين تعود إلى ديارها، تصير منبوذة اجتماعياً ويكون الطلاق مصيرها المحتوم، لأن المرأة دائماً في خانة الريبة والشكّ حتى لو أثبتت براءتها، وهناك قصص عدة سمعنا بها. - العنف القانوني والمتمثّل قبل أي شيء بحرمان مطلّقات وأولادهن سواء من المعونات أو المواد المدعومة سابقاً، بسبب طلب اصطحاب دفتر العائلة الذي يعتبره القانون ملكية خاصة للرجل، بغض النظر عن حضانة الأم للأبناء وحاجتها المتكررة له ليس فقط في مجال المعونات، وإنما في مجالات أخرى تتعلّق بالأولاد ودراستهم وسواها. والوضع ذاته لأرامل أو زوجات أخريات لرجل واحد لا يملك سوى دفتر عائلة واحد، أو لنازحات لم يتمكّنَّ من أخذ الأوراق الرسمية قبل خروجهن من بيوتهن، ومنهن من لم تستطع تسجيل المواليد الجدد بعد النزوح للأسباب ذاتها، فكان أن بقي أولئك الأطفال مكتومي القيد بكل ما يترتّب عليه من آثار سلبية. إضافة إلى عنف قانوني طارئ غير مكتوب تساهل بموجبه المُشرّع بتعدد الزوجات تماشياً مع الوضع الراهن، مثلما سمح في الوقت عينه بزواج القاصرات. وهناك عنف قانوني أشدُّ إيلاماً، وهو رفض تسجيل المولود ناتج الاغتصاب على اسم الأم لأن القانون لا يسمح بهذا، وهنا نكون في مواجهة حالات من مجهولي النسب. - العنف النفسي والذي يتمثّل بالحالة النفسية التي تعيشها المرأة نتيجة كل ما ذكرناه أعلاه، والذي يُشكّل لها مرّة بعد أخرى صدمات نفسية ناجمة عن فقدان أعزاء أو ممتلكات، ناهيك عن الصدمات المرتبطة بالاغتصاب، إضافة إلى استمرار التوتّر والقلق اللذين يسمان تصرفاتها وسلوكاتها عموماً. إن هذا الكمَّ الرهيب من العنف يخلّف داخل المرأة الإحساس بالقهر والاكتئاب والعزلة، فضلاً عن الشعور بالإثم والعار والاضطهاد الاجتماعي. وهذا بمجمله يتطلّب إنشاء مراكز للدعم النفسي والاجتماعي والقانوني للنساء والأطفال. لذا لا بدّ من تأكيد تطبيق القانون الدولي والاتفاقيات الدولية الخاصّة بحماية النساء والأطفال في مناطق النزاع المسلّح، باستخدام الوسائل المتاحة، إضافة إلى ضرورة إشراك النساء في التدابير التي من الممكن اتخاذها في شأنهن، وكذلك في مجال محادثات السلام الخاصة بمجتمعاتهن، أيّ ضرورة تفعيل القرار 1325 جدياً في سورية، إضافة إلى ضرورة رفع تحفّظات الحكومة السورية عن اتفاقية سيداو، من أجل مواكبة الواقع السوري في زمن الحرب والذي فرض مُتغيّرات كبيرة وجديدة سواء على مستوى المرأة، أو على مستوى الأسرة.
مشاركة :