ست قصائد نثر للشاعر الأمريكي مارك ستراند

  • 12/10/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كآبة الشاعر المدفونة في أحدِ فصولِ الصيفِ حين كان لا يزالُ شابًا وقفَ لدى النافذةِ وتساءلَ أين ذهبنَ، أولئك النسوة اللاتي جلسنَ بالقربِ من الشاطئ، يراقبنَ، وينتظرنَ وصولَ شيءٍ لن يصلَ أبدًا، الريحُ ناعمةٌ على بشرتهن، ترسلُ خصلاتٍ شاردةً من الشعرِ على شفاههنَّ. من أي المواسمِ سقطنَ، من أي فكرةٍ للجمالِ ضللن؟ كان قد مرّ وقتٌ طويلٌ منذ رآهنّ في بهائهن المتوحد، مستغرقاتٍ في بطالتهن، يمثلن القصة الحزينةَ للأمل المهجورِ. كان هذا هو الصيف الذي جاسَ خلاله الليلةَ الخارقة، وصولاً إلى بحرِ العتمةِ، كما لو للمرةِ الأولى، ليلقي بضيائه، غير أن ما ألقاه لم يكن سوى العتمةِ، وما عثرَ عليه كان هو الليل. واضح في ضوء سبتمبر يقفُ رجلٌ ما تحتَ شجرةٍ ما، سامقًا ببصرهِ نحو منزلٍ صغيرٍ. يلوّحُ بذراعيه كما لو كان طائرًا، ربما مشيرًا إلى أحدٍ ما لا نستطيع أن نراه. ربما كان يصرخُ، ولكن حيث إننا لا نسمع شيئًا، فهو على الأرجحِ لا يفعلُ ذلك. والآن ترسلُ الريحُ رعشةً عبرَ الشجرةِ وتسوي العشبَ. يجثو الرجلُ فوق ركبتيهِ ويهوي بقبضتيه على الأرضِ. يأتي كلبٌ ما ويقعي إلى جواره، فيقفُ الرجلُ ملوّحًا بذراعيه مرةً أخرى. ما من صلةٍ لما يفعله بي. يأسُهُ ليس يأسي؛ فأنا لا أقفُ تحتَ الأشجارِ وأنظرُ إلى المنازلِ الصغيرةِ، ولا كلبَ لي. ظَفَرُ اللانهائي استيقظتُ في الليلِ وتوجهتُ صوبَ نهايةِ القاعةِ. فوقَ البابِ وبأحرفٍ كبيرةٍ كان مكتوبًا، «هنا الحياةُ الآخرةُ. تفضّلْ بالدخولِ رجاءً». فتحتُ البابَ. في الطرفِ الآخرِ من الغرفةِ التفتْ نحويَ رجلٌ ملتحٍ يرتدي بذلةً خضراءَ وقال، «من الأفضلِ أن تستعدَّ، فإننا سنسلكُ الطريقَ الطويل». «الآن سأستيقظُ»، قلتُ في نفسي، لكنني كنتُ مخطئًا. بدأنا رحلتنا فوق سهلٍ أجردٍ مُذهّبٍ ورقعٍ من الثلجِ. ثم لم يكن هناك شيءٌ حولنا مسافةَ أميالٍ، وكلُّ ما كنتُ أستطيعُ سماعه هو قلبي إذ ينبضُ وينبضُ بقوةٍ حسبتُ معها أنني سأموتُ مرةً أخرى من جديد. الوصول الغريب للرسالة الغريبة كان يومًا طويلًا في العملِ ورحلةً طويلةً رجوعًا إلى الشقةِ الصغيرةِ حيثُ كنتُ أقيمُ. حين وصلتُ إلى هناك أشعلتُ النورَ ورأيتُ فوقَ الطاولةِ مظروفًا كُتبَ اسمي عليه. أين كانتْ ساعةُ الحائطِ؟ أين كانتْ الروزنامة؟ كان الخطُ خطَ أبي، لكنه ميّتٌ منذ أربعين عامًا. وكما قد يخمّنُ المرءُ، رحتُ أفكرُ أنه ربما، فقط ربما، ما زال حيًّا، يعيشُ حياةً سريّةً في مكانٍ ما قريبٍ. وإلا كيف يمكنُ تفسيرُ وجود المظروف؟ ولكي أستعيدَ توازني، جلستُ، وفتحته، وأخرجتُ الرسالةَ. «ولدي العزيز» هكذا بدأتِ الرسالةُ. «ولدي العزيز» ثم لا شيءَ بعد ذلك. في الدار الآخرة وقفتْ إلى جواري لسنواتٍ، أم أنها لم تكنْ سوى لحظةٍ؟ لا أستطيعُ أن أتذكرَ. ربما أحببتُها، ربما لم أحببها. كان ثمة بيتٌ، ثم انمحى كلُّ أثرٍ لَهُ. كان ثمةَ أشجارٌ، ولكن لم يبقْ منها شيءٌ. حين لا يعودُ بوسعِ المرءِ أن يتذكرَ، فما الذي يتبقى؟ أنتِ يا مَنْ تصرّمتْ لحظاتهُا، يا مَنْ تنجرفينَ مثل الدخانِ في الدارِ الآخرةِ، قولي لي شيئًا، قولي أي شيء. مثل ورقةٍ في مهبِّ الريح بعد أن يغادرَ مكان عمله، حيث لا يعرفه أحدٌ، وحيث تظلُّ وظيفته لغزًا حتى بالنسبة له، يذرع ماشيًا شوارعَ شبه مضاءةٍ وأزقةً معتمةً إلى غرفتهِ في الطرفِ الآخرِ من المدينةِ في نهاية مبنى قديمٍ للشققِ. إنه فصلُ الشتاءِ، وهو يمشي محدودبَ الظهرِ وقد رفع ياقةَ معطفهِ إلى الأعلى. حين يصلُ إلى غرفتهِ، يجلسُ إلى طاولةٍ صغيرةٍ ويحدّقُ في كتابٍ أمامه. صفحاتُهُ خاويةٌ، وهذا هو تمامًا السببُ الذي يجعلُهُ قادرًا على التحديقِ فيهِ لساعات.

مشاركة :