حسين الموزاني ... في العودة إلى «طربيل»

  • 12/11/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في ليالي أرقي أستعيد وأنا راقد في سريري أبياتاً شعرية أو أتخيّل كتب شعر كنتُ قرأتها، فأقوم لكي أستعيد ما قرأت فيها قبل أعوام طويلة، وكثيراً ما أكتشفُ أنني لم أعد أملك الكتاب، وأن مكانه حسب الذاكرة، يعود إلى مكتبتي في مكان آخر. كان أرقي فجر الرابع من شهر كانون الأول (ديسمبر) طويلاً، وكانت قصيدة أمرئ القيس التي يقول مطلعها: «غشيتُ ديار الحي بالبكرات...» تلحّ عليّ كثيراً وكنتُ أحاول أن أستعيد بعض أبياتها، خصوصاً البيت الذي يذكّرني بنفسي: «ظللتُ، ردائي فوق رأسي، قاعداً/ أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي». وهو البيت الوحيد ربما الذي بقي صامداً في ذاكراتي. ومن أجل تخفيف ضجري، فتحت الكومبيوتر وسجلتهُ على حائطي الفايسبوكي. كانت الساعة تشيرُ إلى الثالثة وتسع وأربعين دقيقة فجراً. لا أدري ماذا كان يفعل حسين الموزاني ساعتها، نائماً؟ أم يُطاردُ أحلامَه، أم يحاول ترجمة كتاب للسويسري روبرت فالزر. الكاتب الذي اعتقدتُ بأن أفضل من يقوم بترجمة كتبه إلى العربية هو الموزاني. في مساء اليوم ذاته، كتبت له أسأله عن مقابل عربي لكلمة ألمانية، لكنه لم يجب. الثلثاء صباحاً كتبت إليه طالباً العنوان الألماني الذي يمكن أن نضعه لمختاراته المترجمة من مقالات سيغموند فرويد، الكتاب الذي يُوشك أن يذهب إلى المطبعة، أيضاً بلا جواب. الأربعاء صباحاً عاودت الكتابة إليه معبّراً عن قلقي، وبيني وبين نفسي فكّرت، ربما يكون حسين قد زعل لسبب ما مني، أو حتى بلا سبب، إنما فقط قضية مزاجية. لهذا حاولت الاتصال التلفوني من أجل كسر جبل الجليد المتوهم بيننا، بالرقم الثابت أولاً، بلا فائدة، قلت ربما هو خارج البيت، فجربت الاتصال على هاتفه المتحرّك وأيضاً بلا فائدة. هنا حاصرني الشك الصغير، وأخذ يكبر، الشك في أنه قد رحل وحيداً في شقته. سكينة- أميرة الموزاني، ابنته المقيمة في برلين أيضاً، بعدما ساورها القلق ذهبت الأربعاء صباحاً إلى شقته، فإذا هو نائم في سريره. رقد مبكراً الاثنين مساءً ولم يستيقظ... التقينا للمرة الأولى في نهاية عام 1980 في مدينة هنوفر الألمانية، كنا مجموعة عراقيين هاربين من الاضطهاد السياسي في بلادهم، نحاول أن نبدأ حياة جديدة وأن نعلن عن قضية بلدنا. جمعتنا مباشرة أواصر صداقة قامت على الموقف السياسي، الأدب، قراءةً وكتابةً، الفضول الشديد لمعرفة ثقافة البلاد التي أقمنا فيها، ولكن أيضاً جمعنا الفقر والجوع وضيق ذات اليد، وبأننا مقطوعون من شجرة، لا أحد لنا. كان علينا أن نتحمّل كلّ هذا، أن نتحمّل ضحالة المنفى، ضيق أفق المنفيين الآخرين الذي يضيق أكثر وأكثر، كوابيسه الأخرى التي لا تُعد ولا تُحصى. حينها، في تلك السنوات كنا نتلمّس الطريق الأدبي. كان منشغلاً بقراءة نيتشه، وكنت بسبب إقامتي القصيرة في فرنسا، أغوص في أشعار الفرنسيين برفقة القاموس، فيما سيحلّ الشعراء الألمان تقريباً محل الفرنسيين وتغدو الصورة وكأننا نمسك العالم من طرفيه. وعلى رغم أن السردين هو طعامنا الوحيد، لكنّ الأحلام كانت تخيّم على المائدة وتعطي ظلاً وارفاً نتوهمه، وربما نراه في ما بعد بشكل عابر ومن بعيد. لم تسنح لي القراءة الشعرية أمام جمهور عراقي إلا مرة واحدة، كان هو أيضاً متواجداً فيها في مدينة السليمانية العراقية، فأخذت على عاتقي تقديمه إلى جمهور جديد ربما يعرفنا وعلى الأغلب يجهلنا تماماً، لكن الدموع كانت هي الأصدق تعبيراً حينها، ذلك أن اللغة الأدبية، حتى اللغة الأدبية التي كانت أداتنا للتخاطب مع الآخرين بدت عصية على الفهم. الرثاثة هي المهيمنة وهي التي تسيّر حياة أدبية مزعومة، ورثت تلك التي خرجنا، وكأننا لم نعد أبناء لها وهي تتنكر لنا، وتحوّل فرح عودتنا بشكل تدريجي إلى طرد من جنة قاحلة. وحتى هذا تعودنا عليه ولم يعد يعني شيئاً لنا، فقد كان علينا أن نُكمل المشوار. على عكسي، لم يُكمل حسين الموزاني دراسته الثانوية، ولكن ما أن انتهينا من قضية اللجوء وأضحينا مقيمين ولنا حقوق وعلينا واجبات، حتى استطاع بجهود عصامية أن يواصل دراساته حتى نال الماجستير من جامعة مونستر بدرجة جيدة جلبت له منحة دراسة لإكمال الدكتوراه في الجامعات المصرية، لكنه بدل إكمال الدكتوراه، كتب روايته الأولى «اعترافات تاجر اللحوم» والتي نشرتها له عام 1997، ومارس الترجمة الأدبية عن الألمانية وأنجز ترجمات رائعة لروبرت موزيل، نيكولاس بورن، راينرماريا ريلكه وغونتر غراس وأيضاً أعمال متفرقة لغوتفريد بن، إنغبورغ باخمان، يورغن هابرماس، فالتر بنيامين وأعمال أخرى كثيرة لم يحالفها الحظ بالنشر، فهو مثل أي كاتب موهوب لا يقف عند مخطوطة أو ترجمة أنجزها، إنما يتجاوزها بسرعة إلى أخرى. فالموزاني له مزاجه الخاص الذي لا يمكن التنبؤ به أبداً. وكأنه كان يتلقى أحلامه التي تتبدل أشكالها الخارجية في شكل سريع، في عالم واسع لا يمنح الاعتراف بسهولة ويمارس السحق والتجاهل والإلغاء. عالم قائم على تسييد الوسخ وتتحكم به العلاقات ولا يأخذ في الاعتبار أشخاصاً مثله. كان حينذاك يستغرب من فكاهتي من كل هذا، ويأسي المقيم، خصوصاً بعدما عرف بعضاً من الشهرة في ألمانيا، وهي شهرة موقتة تختفي بمجرد انتفاء الأسباب الخارجية لوجودها. حينها أيقن بأن التحقق الذاتي هو الذي يجعلنا نتمتع بالمناعة إزاء كل هذا الخواء المجتمعي والسياسي والثقافي بطبيعة الحال. عند هذا المفصل تقريباً استقامت علاقتنا وأضحت لنا مشاكل الحياة بمختلف تجلياتها وكأنها فكاهة لا غير. وهكذا أعدت نشر بعض أعماله وترجماته، كما أنه أنجز ترجمات جديدة وكأنه جلس إلى حافة البئر ذات الماء العذب. في لحظات يأسه من العربية، أنجز أربع روايات نشرتها دور ألمانية، ثم نشر كتاباً ضم العديد من مقالات باللغة الألمانية. لعل روايته الأخيرة والتي ستصدر قريباً في برلين هي أكثرها إثارة وعنوانها «صديق غوبلز»، تتناول شخصية عراقية غامضة، هي يونس بحري، صوت إذاعة برلين الحرة خلال الفترة النازية... هذه الرواية ستترجم إلى العربية قريباً. نشر حسين الموزاني في أول مجموعة قصصية له «خريف المدن» (1996) قصة بعنوان «طريبيل» وهي المعبر الحدودي الأردني إلى العراق، وفيها يحكي في شكل غرائبي قصة رجل يحمل جنازة رجل آخر توفي في الخارج من أجل دفنه في بلده وذلك عبر رحلات الطيران إلى عمّان، عبر الفنادق، ومنها عبر الطريق إلى العراق... وذلك أثناء سنوات الحصار. هل كان الموزاني يكتب عن مصيره أو مصائرنا؟ في القصة يدور الحوار التالي: - «كيف توفي المرحوم؟» سأله الشرطي. - «مات موت الله» قال العراقي. - «كلنا نموت موت الله، قضاء وقدراً، لكن بأي مرض توفي خالك»؟ - «بالسكتة القلبية...». - «هيك فجأة»؟ - «كان عمره خمس وستين سنة. يجوز مات من القهر. الله يعلم»! - «إنا لله وإنا إليه راجعون» قال الشرطي بضيق. «طيب، ما في مقابر في ألمانيا»؟ - «طبعاً أكو مقابر بألمانيا، بس المرحوم، قبل ما يموت، وصّى أن ندفنه بالنجف». ولد الموزاني عام 1954 بناحية الميمونة – العمارة، جنوب العراق وتوفي في 6 من الشهر الجاري في برلين. (هذه قصيدة أهديته إياها آنذاك، وهي منشورة ضمن كتابي «عيون فكرت بنا» الصادر عن دار الريس 1990، ربما وجدتها مفيدة، أو مقاطع منها)

مشاركة :