الفئات الفقيرة جعلت من "النقاب السياسي" زيا موحدا يخفي الطبقية بقلم: حكيم مرزوقي

  • 12/14/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الفئات الفقيرة جعلت من النقاب السياسي زيا موحدا يخفي الطبقية غطاء الرأس لدى المرأة في العالم العربي والإسلامي ليس مجرد امتثال لرأي ديني أو قاعدة فقهية، بل يتخذ بعدا اجتماعيا ينحو تأويله نحو اتجاهات نفسية وحتى اقتصادية، لكنه اتخذ منحى رمزيا، فقد صار بمثابة الرسالة السياسية التي يريد التنويريون إيصالها فيرد عليهم غلاة التعصب والانغلاق بمثلها ويزيدون عليها، ولعل تونس تمثل عبر ماضيها وحاضرها نموذجا لهذا الحقل الدلالي، خصوصا بعد ربيعها الذي عرف عثرات وكبوات ربما كان لا بد منها. العربحكيم مرزوقي [نُشرفي2016/12/14، العدد: 10485، ص(13)] فكر بورقيبة يثمر في أرض تونس رغم الطفيليات الجهادية يتذكّر التونسيون جيّدا اللقطة الأشهر بعد استقلال بلادهم سنة 1956 للزعيم الحبيب بورقيبة وهو ينزع غطاء الرأس من إحدى السيدات مبتسما تحت هالة من الابتهاج والتصفيق من مؤيديه من جهة، وتجهّم وجوه معارضيه من الحانقين والكاتمين لغيظهم من جهة أخرى. كأن بورقيبة يريد أن يعلن من خلال تلك الحركة التي لا تخلو من استعراض، ولادة تونس جديدة، لكن بعد 14 يناير 2011، وبعد عقود من “تلك الولادة القيصريّة”، أصبح ارتداء الحجاب أوالنقاب مشهدا شبه مألوف في الشارع التونسي الذي عرف بـ“سفوره” الواضح لعقود طويلة من حكم محرّر المرأة، وكذلك ما يقاربها من حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، مع اختلاف واضح في النية والغاية من التضييق على الحجاب بين الحاكمين، فالفرق واضح بين زعيم، يزعم أن غايته تحديثية تنويرية، وبين رئيس تركّز جهد أجهزته الأمنية على ملاحقة الحجاب بغية تتبّع أشرس معارضيه الطامعين في الحكم من الإسلاميين. لست أدري إن كان النقاب قد نجح في التسلّل إلى جحافل التونسيات في المعاهد والجامعات والوظائف بعد ربيع كان الأجدر به التفتّح والانفتاح، لا التزمّت والانغلاق، أم أنّ الحجاب كان موجودا تحت الجلد وظلّ يلبس طاقية الإخفاء في “سنوات الجمر، حتى ظهر الحقّ وزهق الباطل” على حد تعبير أحد القادة الإسلاميين في تونس. المعروف عن هذا البلد المغاربي -ذي الموارد الطبيعية المحدودة- أنّه لعب عبر التاريخ دورا أكبر من حجمه، فكان سبّاقا إلى سنّ قوانين مدنيّة نافس فيها أعتى الديمقراطيات الغربية على صعيد تحرّر المرأة والمجتمع بتخصيص الجزء الأكبر من ميزانية الدولة للتعليم والثقافة. يعود الفضل إلى الزعيم بورقيبة، مؤسس الجمهورية الأولى المعروف بمغالاته في النسج على المنوال الغربي بحكم دراسته في باريس وارتباط اسمه بالحركة الوطنية التي شهدت مدّا وجزرا، ثمّ انحيازا واضحا إلى الحل السياسي والمدني السلمي على حساب الحل العسكري المسلّح الذي تشبّثت به الجارة والشقيقة الكبرى، الجزائر، ولعله كلفها لاحقا الكثير من المشكلات. ربما يتعلّق الأمر بطبيعة وتركيبة تونس البشرية والجغرافية والتاريخية، فهي تكاد تكون البلد العربي الوحيد في التجانس الديني والعرقي والمذهبي تقريبا (أغلبية عربيّة مسلمة سنيّة مالكيّة المذهب)، إلى جانب بعض الأقليات الأمازيغية والزنجية واليهودية والإباضيّة والحنفيّة والبهائيّة، وقليل من المتنصّرين والمتشيّعين، وقد تصاهر وانصهر فيه الجميع دون صدامات. لعلّ التونسيين قد حرموا من ذاك الموزاييك الثقافي الموجود في بلاد الشام والعراق، والذي يغني الذائقة بالتنوّع المحمود، لكنّ غيابه له فضل في النأي بالتونسيين عن الصراعات المذهبية والاحتقانات الطائفية التي قد تعصف بالبلاد وتجعل قطار ربيعها اليوم على شفا هاوية من الانحراف وسط تجاذبات سياسية حادّة. تأتي المرأة -أو نصف المجتمع الذي يربّي نصفه الآخر- مقياسا حقيقيّا لنجاح الثورة أو إخفاقها في تونس، على اعتبار أنّ حقوقها مكسب تاريخي ووطني يفتخر به التونسيون والعرب، بل المسلمون جميعا. لسائل أن يسأل بعد 14 يناير 2011: هل عادت حفيدة تلك السيدة التي نزع بورقيبة الغطاء من فوق رأسها كي ترتديه هي من جديد فتنتقم لمعارضي بورقيبة من المتشدّدين؟ هل ضاعت صرخة الزعيم التونسي في الفراغ؟ هل كان يحرث ويبذر في أرض عاقر؟ هل خذله شعبه الذي راهن عليه أعزل وفقيرا إلاّ من سلاح الثقافة والتعليم.. أم أنّ الزعيم كان “دونكيشوتا” يحارب طواحين الهواء ويطلب غير المستطاع؟ أغلب النساء الفقيرات والعاجزات عن ارتياد متاجر الموضة يحبذن ارتداء ما أخفى من الثياب العتيقة وما هو أسهل على الجيوب هل نزع بورقيبة فعلا الغطاء من فوق رأس تلك السيدة، أم شبّه وخيّل له ذلك.. وغفل عن نقاب سميك، صنعته قرون طويلة من التربية المتشدّدة والاعتقاد بعورة المرأة في الصوت والصورة والمعرفة والتساوي مع من أنجبته أو تزوجته أو ربّته؟ النقاب والحجاب واللحى التي غابت عن الشارع التونسي ومؤسسات الدولة لعقود طويلة بفعل التعليمات والقوانين الصادرة بحظرها، وتحت ذريعة محاربة التطرف والإرهاب، عادت بعيد يوم 14 يناير 2011 تطلّ برؤوسها مع القفازات وأصوات التكبير، وكأنها جاءت لتحرر التونسيين من وثنيتهم. لكنّ لظهور النقاب في الشارع التونسي أسبابا أخرى غير التديّن والقناعات الشخصيّة.. إنه شكل من أشكال الانتقام والتشفّي وكذلك “موضة” يمارسها بعض التونسيين في ربيع حرياتهم، تأثّرا بما يشاهدونه على القنوات المتاجرة باسم الدين بعد أن كانوا في عصر ما قبل الساتلايت، يكتفون بمشاهدة سلسلة “من توجيهات الرئيس” في “التلفزيون الوطني”، بالإضافة إلى قناتي إيطاليا وفرنسا لقربهما الجغرافي، وقوة تأثيرهما في الأوساط الشبابية التي كانت توصف بـ“المستلبة” آنذاك، ثم صار الكثير من الفئة العمرية نفسها الآن “دواعش”. السبب الأرجح والأكثر إقناعا -في اعتقاد الكثير- لظهور النقاب هو ماديّ اقتصاديّ بحت؛ ذلك أنّ أغلب النساء الفقيرات والعاجزات عن ارتياد صالونات التزيين ومتاجر الموضة يحبّذن ارتداء ما أخفى من الثياب العتيقة وما هو أسهل على الجيوب، وأقدر على ستر العيوب، وأمكر في تزويج الفتيات المسنات، ومتواضعات الجمال. إنّ الأمر يتعلّق أيضا بما يعرف بـ(اليونيفورميزم)، أي تعميم اللباس الموحّد كما هو الحال في المعامل والمستشفيات ورياض الأطفال، وكذلك يفعل بعض الملتحين حين يريدون إخفاء علامة أو ضربة سكين في الوجه. غفل هؤلاء من “دعاة الزي الموحد” عن مسألة لم تتفطّن إليها رؤوسهم الصغيرة، وهي أنّ الأقمشة التي يصنع منها النقاب متفاوتة الجودة والأسعار والذائقة والألوان، كما أنّ مهنة “المكيّس” في حمّام السوق العمومي، تمكّن صاحبها من معرفة معادن الرجال ووظائفهم ومستوياتهم الاجتماعية بمجرّد التمييز بين الجلد الناعم والجلد الخشن. علق أحد المراقبين بقوله “هل يزدهر الشعر العذري بعودة النقاب مثلما ازدهرت تجارة بيعه في تونس؟”، لكن الأمور عادت اليوم إلى ما كانت عليه قبل 2011، لا بل بسفور أكثر.. وتلك مشكلة أكبر، وقد تعطي ذريعة لعودة مدعي الاحتشام ومحاربة الانحلال الأخلاقي من دواعش العصر. :: اقرأ أيضاً الجهاد والهجرة عند التيار التكفيري

مشاركة :