لم يغب عن بالي ذلك اليوم الذي طرق فيه عامل السنترال باب بيتنا بمدينة الطائف يستأذننا في إدخال خدمة الهاتف إلى منزلنا، كان ذلك في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، وتحديدا قبل ثمان وثلاثين سنة تقريبا، في ذلك اليوم تحلقنا جميعا أبي وأمي وأختي حول هذا الجهاز السحري الذي بتدوير أقراصه يمكنك سماع من تشاء، في أي وقت تشاء. في تلك الفترة كانت أحلامنا بسيطة، بل كانت أذهاننا لا تحتمل أكثر من ذلك، حتى أننا ظللنا مبهورين لفترة طويلة عند خدمة الفاكس، ذلك الجهاز الخارق الذي ينقل أي شيء تكتبه في غمضة عين إلى الجهة الأخرى حتى لو كانت في أقاصي الأرض. واليوم بات الأمر مختلفا، فما كنا نراه صعبا أصبح واقعا، وما كنا نحسبه من أحاديث خرافة بات ملموسا، ولا يقتصر الأمر على جوانب التقنية وحسب، بل يمتد إلى كل متعلقات حياتنا، نمط معيشتنا، طبيعة تفكيرنا، منظومة قيمنا، تكويننا الآدمي للأسف الشديد. العجيب أننا وحتى الآن لم نتنبه بصورة إيجابية لمختلف التأثيرات السلبية التي بتنا نعيشها صبح مساء جراء تسارع هذه التحولات في حياتنا، وتأثيرها على كياناتنا الاجتماعية والاقتصادية.... إلخ، بالرغم من أننا نمثل الجيل الأول في عالم التحولات التاريخية المذهلة، وهو أمر يستلزم من مختلف العارفين التفكير فيه بجد، والعمل على إيجاد حلول فكرية عملية لمواجهة تأثيراته السلبية القادمة. ولأكون أكثر وضوحا أشير إلى أن مسار التحولات عبر مختلف الحقب التاريخية قد أخذ وقتا طويلا يصل في أقصر فتراته إلى قرن من الزمان حتى تستبين ملامحه، بمعنى أن الجد وابن الحفيد يمكن أن يعيشا زمنا واحدا من حيث طبيعة التكوين الاجتماعي والحياتي، بل وحتى الطبيعة الجغرافية والهوية السكانية. أما اليوم فالأمر مختلف تماما، فما عاشه أبي كآخر جيل الامتداد التاريخي الطبيعي، لم أعشه أنا، فكيف بابني وحفيدي في المستقبل؟!. في أحد أماسي خميسية أستاذنا محمد عمر العامودي تطرق الحاضرون بالحديث عن مدينة جدة التي رأوها في شبابهم، شعرت لوهلة أنهم يتحدثون عن مدينة تبعد عني قرونا طويلة، ذلك كان إحساسي، فكيف سيكون إحساس أبنائي ومن سيأتي بعدهم، والمسافة بيننا لم تبلغ النصف قرن. أرأيتم كيف بات البون بيننا مهولا متسارعا؟! الغريب أن كثيرا من مثقفي أمتنا العربية ـ على مختلف توجهاتهم ـ لم يتنبهوا لخطورة هذا البون الزماني الكائن، وبالتالي لم يدركوا أهمية تغيير مسارات توجهاتهم الفكرية حين مناقشة كثير من المستجدات الحادثة، فكان أن ألف عديدا منهم التفكير بذهنية ماضوية، والتحليل وفق سياقات تاريخية، دون وعي بأن التاريخ اليوم لا يعيد نفسه. zash113@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (51) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :