لم يقتصر إشكال مسار الغلبة في الذهنية العربية على الجانب الاجتماعي والسياسي وحسب؛ كما جرى الحديث عنه في المقال السابق، بل امتد ليشمل كثيرًا من سياقات الثقافة الإسلامية في جانبها المذهبي والفكري. وهو الجانب الذي يُفترض أن يكون مسار النبوة ومشكاة الهداية منطلقًا له، ذلك المسار الذي تمثلت فيه الرحمة في أوسع أشكالها، ووضحت خلاله القدرة الواسعة على الاحتواء، والرغبة الجادة في هداية الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، والعمل على إخراجهم من الظلمات إلى النور، من خلال تعزيز منظومة القيم الأخلاقية مصداقًا لقوله الشريف: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). لكن الأمر لم يَجرِ على هذا المنوال في كثير من مفاصل ثقافتنا الإسلامية، التي سادت في ثناياها ثقافة العنف بدل اللين، والتعصب بدل التسامح، وانتشرت في مضامين مؤلفاتها مصطلحات الخلاف بدل مفاهيم التوافق، فكان أن حفل جانب كبير منها بالكثير من ألفاظ التفسيق والتبديع، وبدل أن يصبح التدين عامل وحدة وجذب، صار بفهم خاطئ عامل فرقة وخلاف. وواقع الحال فتاريخنا حافل بكثير من الشواهد على ذلك، إذ ما ذبح الجعد بن درهم، وصلب غيلان الدمشقي، وسجن أبي حنيفة النعمان، وكسر ذراع مالك بن أنس، وضرب محمد بن إدريس الشافعي بمصر، وجلد أحمد بن حنبل، وحصار محمد بن جرير الطبري، ومحاكمة ابن رشد ونفيه، وصولا إلى سجن أحمد بن تيمية، واستتباعًا بغيرهم، إلا دلائل على مدى تغلغل سياق ثنائية الغالب والمغلوب في الذهنية العربية الإسلامية. تلك النماذج وغيرها، تؤكد مدى بعد كثير من مفاصل المجتمع الإسلامي فكريًا عن سياقات الذهنية النبوية، التي عززت من قيم التسامح، وأكدت صواب تعددية الرأي والاجتهاد. لكن مجريات التاريخ تعكس شيئًا آخر، من واقع حالة التعصب المقيت التي نتج عنها كل أشكال العنف اللفظي واليدوي، لتنقسم الأمة معه إلى ثلاثة طوائف رئيسة وهم: (السنة والشيعة والخوارج)، ولتتشظى كل طائفة إلى مذاهب متغايرة، والأسوأ أن يتم حصر زاوية الرؤيا، وتضييق خط النجاة عند كل طائفة ومذهب في آراء فقهية معينة، واجتهادات بشرية محددة، صيغت معالمها في قرون ماضية، وفق ضرورات خاصة، وظروف مكانية وزمانية ومنهجية معينة، وهو ما أقفل باب الاجتهاد من جانب، وحد من التفاعل الذاتي بالتفكير والتأمل لفهم القرآن الكريم بوصفه المصدر الرئيس للتشريع. لقد كان من جراء هذا أن توقف الإبداع، وضمرت العقول والأفهام، وصار الناس مشغولون في قضايا عفا عليها الزمن في عالم الغرب المتقدم، الذي تخلص من مسار الغلبة في سياقه الذهني، بإعلانه القطيعة المعرفية مع الموروث الكنسي، وإيمانه المطلق بحرية الإنسان كقيمة أخلاقية. zash113@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (51) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :