ربما يختلف الناس معي أو يتفقون أن قيود التحول أو التغيير للأفضل في ظل عصر المتغيرات أو الغربلة أغلبها عقلية أو نفسية أكثر مما هي واقعية، إذ ربما تكون هذه التحولات أو التغيرات إيجابية ونعمة حقيقية وليست متاعب للإنسان لأنها تدخل ضمن سياق المراجعات، ولعل هذا يذكرني بما قاله المفكر الأمريكي «ديل كارينجي» المختص بتطوير الذات والعلاقات الإنسانية القائل: «إذا أردت التوقف عن أي قلق في المستقبل والبدء بالحياة عدد نعمك وليس متاعبك»، لذا الخوف المستمر من مراحل التغير المقترنة بعالم الإنسان والحياة يضعنا في سجن الوهم لأي تغير يطرأ والذي ربما يكون بداية لخلق ظروف صحية جديدة، فما زلنا نتذكر قبل عشر سنوات وأكثر مثلا من يرفض دخول بناته المدارس النظامية، ومن كان يكسر الدشوش عند أبواب المساجد، ومن كان يتشنج ويتحسس في حوارته أو جلوسه مع أي مخالف في عقيدته أو عاداته الاجتماعية، أو من يستحي أن يخطب الجمعة بعقال أو يكون مسبلا للإزار، أو أن يعرف المتدين بلحية، ومن كان ينظر للمرأة التي تعمل طبيبة في المستشفى بنظرة ريبة ولا يقبلها زوجة، ومن تجد الحرج لو أظهرت وجهها للأجانب وغيرها الكثير، فما هو حال هؤلاء اليوم؟ إن حجم التحولات والمتغيرات قد تضاعف على مستوى الحياة الثقافية والاجتماعية في منطقتنا ومنطقة الخليج بشكل عام نتيجة للتحولات التي تموج بالعالم، وفي المقابل تغير العالم وأنماط الفكر، بالإضافة لأثر الاحتكاك بالعالم الخارجي والتفاعل المستمر معه إيجابا أو سلبا، مما خلق جوا طبيعيا لمجموعة من الإيدلوجيات المختلفة التي سادت مساحات من الفكر المعاصر حتى أصبحت آلية الجمع والتوفيق محدثة أزمة في ثقافة المسلم المعاصر الذي يشعر بالتناقض بين مكتسباته وثقافته وبين ما يشاهده من الصراع السياسي الذي لا يتمحور حول مقاصد الإسلام وغاياته وثوابته، مما جعل فكرة المعاصرة والانفتاح سلما يطوره هو في حقيقته لا يستطيع أن يحافظ على مصالحه إلا من خلال التأرجح بين دوائر كثيرة منها دائرة الإسلام. فأين نحن اليوم من أهداف حركة التجديد الحضاري؟ المتابع لتاريح حركة التجديد يجدها مرحلة وسلما للتحول والتي عرف بها المفكر الإسلامي «مالك بن نبي» كونها تفاعلا بشريا يرتبط بمكونات وفاعليات أخرى يكون الإبداع أحد ثمارها لإنتاج الجديد، وما مشاريع الإصلاح وردع الفساد إلا مسارات للتحول الإيجابي في فلك التحول الحضاري، وما نظرية التحليل النفسي والمنهج التجريبي وجمهورية أفلاطون إلا مناهج في التفكير والتحول للقوة التي انتجها العقل المفكر، وبغيرها تسود فريسة الغثائية الذي أصبحت تطبع المجتمعات الراكدة، بل نلحظ أن إنجازاتها دون مستوى الطموحات والخبرة والجهد بكثير، حيث يلاحظ اختلال كبيرٌ بين طرفَيْ المعادلة، إذ المحافظة على مكاسب ومنجزات حركة التغير والبناء الحضاري، وضمان ديمومة هذه الحركة يحقِّق تراكم الخبرة وتكاملها واطراد نمائها، فالواقع يجعلنا كمجتمع قابل للتحولات، بل سيجعل مؤسساتنا التربوية والفكرية تتطلع للتفكير في التجديد المتوائم مع تراثنا، كما يجعلنا في البحث عن السباق والآليات التي يؤدي تجاوزها عبور جسور طويلة تحلق بالمعرفة وبقدرات العقل خاصة عند أجيالنا القادمة التي تنتظرها كثير من المعارك والمعارف المتنوعة. لذا فالتحوّل مثلا من الإيمان القرآني إلى العقيدة في التاريخ الإسلامي جعل الإسلام وكأنه جهاز سياسي خالص خال من كل علم ويقين، وهذا الجهاز السياسي هو الذي يتعارض جوهريا ويتناقض واقعيا مع كل دعوة للانفتاح والتواصل وللتسامح، لأنه عقدي يصنّف البشر صنفين: الذين يقرون بعقيدتهم والذين يخالفونهم، والمخالفون ضالون منحرفون يجب محاربتهم، فالعودة إلى الإيمان القرآني النبوي المفتوح ومغادرة العقائد المغلقة يضمن للمسلمين اليوم إعادة بناء لشخصيتهم ويسمح لهم بفتح علاقات جديدة مع أنفسهم ومع الآخرين ومع العالم، من هنا نستطيع القول إن مشاريع التحول أو التغير طبيعية لطبيعة التغيرات المتجددة والتي تلزمنا التفكير بهدوء والصعود أعلى الموجة لا مسايرتها بالضرورة مهمة، وتلمس مواطن القوة التي نملكها لصناعة تحولات إيجابية تعود على الإنسان بالتطور وتخرجه من سجن التوقف السلبي والتذمر المستمر. *أكاديمي وإعلامي
مشاركة :