أتمَّ حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، مشروع التعديلات الدستورية التي تهدف إلى تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي. وسيمنح هذا التعديل الرئيس رجب طيب أردوغان صلاحيات تنفيذية سعى طويلاً من أجلها. قدم الحزب الحاكم مقترح التعديل الدستوري، المدعوم من حزب «الحركة القومية»، إلى البرلمان في 10 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، ويتضمن تخويل الرئيس صلاحيات واسعة، من بينها سلطة إصدار مراسيم لها قوة القانون. غير أن هناك رفضاً داخل الشارع السياسي التركي لهذا المقترح، ما ينذر بتصاعد استقطاب مع أحزاب معارضة، في مقدمها «حزب الشعب الجمهوري»، و «حزب الشعوب الديموقراطي»، المؤيد للأكراد، على رغم استبعاده من البرلمان وخضوعه لملاحقة أمنية بتهمة دعم الإرهاب. ويحتاج الحزب الحاكم، الذي يمتلك 317 مقعداً فقط، إلى دعم القوميين من أجل تأمين الغالبية المطلوبة في البرلمان، وهي 330 صوتاً من بين 550 عضواً لإجراء استفتاء على تعديل الدستور، في ظل استبعاد موافقة ثلثي الأعضاء، 367 عضواً، بالنظر إلى مواقف بقية أحزاب المعارضة. ويمارس أردوغان عملياً صلاحيات تتجاوز نطاق اختصاصاته الدستورية، من بينها التدخل في عمل الحكومة، وتهميش رئيس الوزراء. ويسعى أردوغان إلى بلورة التكييف الدستوري الداعم لصلاحياته، ومن ثم لم يتردد في إقالة أحمد داود أوغلو في أيار (مايو) الماضي، لأنه لم يكن مقتنعاً بتعديل الدستور طالما يتعذر فرضه في البرلمان. وأدلى أردوغان في سياق الحرص على جذب الحلفاء لمصلحة التعديل الدستوري، بتصريحات تصالحية تجاه رئيس حزب «الحركة القومية» دولت باهشلي، بلغت حد تسمية أطول جسر معلق في تركيا باسمه. الجزرة لم تكن وحدها مسلك أردوغان للضغط على تمرير التعديلات الدستورية، فقد رفع العصا الغليظة في مواجهة ممانعي المشروع. فالبرلمان مثلاً، أقرَّ أخيراً تعديلاً دستورياً يرفع الحصانة عن النواب المرفوعة بحقهم دعاوى قضائية. ويراهن أردوغان في تمرير التعديلات الدستورية على اعتبارات عدة، أولها تراجع شعبية «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، على خلفية الحرب الدائرة في جنوب شرقي تركيا، وتصاعد التفجيرات التي ارتكبها «صقور كردستان» وحزب العمال الكردستاني في مناطق سياحية وأمنية في قلب البلاد. وثانيها تشويه الصورة الذهنية لـ «حزب الشعب الجمهوري»، عبر محاصرته إعلامياً وتقييد تحركاته في الشارع، فضلاً عن مصادرة الحكومة عدداً من وسائل الإعلام المعارضة عقب محاولة الانقلاب في تموز (يوليو) الماضي، بذريعة حماية الأمن القومي. يدرك أردوغان حاجة رئيس حزب «الحركة القومية» لدوره في لجم جبهة المعارضة في الحزب الذي تسعى إلى إطاحته، ويبدو حزب «العدالة والتنمية» مقتنعاً بأن معركة التعديل الدستوري تأخذ مكانة خاصة في مسيرته السياسية وتطلعاته المستقبلية، لذلك لم تكن تصريحات إسماعيل كهرمان رئيس البرلمان التركي في نيسان (أبريل) الماضي عن حاجة بلاده إلى دستور إسلامي لا مكان فيه للعلمانية عفوية، أو من دون قصد، وإنما هدفت إلى مساومة جبهة الداخل لتمرير التعديلات الدستورية المطروحة، والتي تبقي العلمانية مقابل تكريس سلطات رئيس الدولة. وعلى رغم أن تركيا تدار بدستور 1982 الذي تمَّ وضعه عقب انقلاب كنعان أفرين في العام 1980، وتم إدخال ما يقرب من 18 تعديلاً عليه، إلا أن حزب «العدالة والتنمية» يرى أنه لم يعد يلبي حاجات تركيا وتطورها. ويحاول أردوغان وقادة حزب «العدالة والتنمية» منذ سنوات تبرير رغبتهم في تعديل الدستور بأنها من أجل استقرار الدولة وحماية المواطن التركي وحقوقه. وسبق أن طالب أردوغان في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 خلال كلمة له أمام البرلمان، القوى السياسية بالتفاهم لإعداد دستور جديد، وحذر من انه في حال فشلت المفاوضات في هذا الشأن، فسيلجأ إلى استفتاء شعبي. التعديلات المقترحة ستضمن في حال إقرارها، بقاء أردوغان في الرئاسة حتى نهاية العام 2029، ذكرى مئوية الجمهورية التركية. وتتضمن التعديلات، تغيير المادة 101، لتكريس حق الرئيس في الانتماء إلى حزب سياسي، وعدم جواز ترشحه إلا بخلفية حزبية إضافة إلى نظام رئاسي كامل يمثّل فيه رئيس الجمهورية رأس الدولة والإدارة ويدير السياسة الداخلية والخارجية ويكون القائد الأعلى للقوات المسلحة. كما تنص التعديلات المقترحة على تعيين نائبين للرئيس وإلغاء موقع رئيس الوزراء وتحويل الوزراء إلى سكرتاريا. كما سيتمتع الرئيس بحق التصديق على قرارات البرلمان واستخدام الفيتو ضدها. وتتضمن مسودة التعديل إلغاء القضاء العسكري وإسناد مهماته إلى مجلس الدولة والمحكمة العليا، فضلاً عن إلغاء وزارة الدفاع وهيئة التعليم العالي. في المقابل، يتضمن المقترح حق محاسبة رئيس الجمهورية حال اتهامه بارتكاب جريمة شخصية أو تتعلق بمنصبه، ويمكن عزله بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان (367 صوتاً). وأخيراً، يبقى الجدل في أمر تلك التعديلات مرشحاً للتصاعد، خصوصاً مع إصرار أردوغان على أنها «ثورة تشريعية»، لضمان الاستقرار والأمن وتحصين وحدة الدولة، مقابل المعارضة التي تسعى إلى إحباطه لمنعه من التمتع بأسباب إضافية للهيمنة على نظام الحكم. إضافة إلى ما سبق، فإن قضية التعديلات الدستورية قد تنعكس سلباً، بتسخين جبهة الداخل في ظل تعديلات قد تمنح الرئيس حق تعيين قادة الجيش والاستخبارات والهيئات القضائية، ورؤساء الجامعات وكبار موظفي رجال الدولة، وإصدار مراسيم رئاسية استثنائية من دون الرجوع إلى البرلمان الذي تبدو صلاحياته مرشحة للتراجع. وقد يؤدي التعديل المقترح إلى تشويه الصورة النمطية لتركيا في الخارج، لاسيما أن الاتحاد الأوروبي اتهم تركيا أخيراً في تقرير له بالانحراف عن قيم الديموقراطية، عبر تراجع مؤشر الحريات فيها. الأهم مما سبق أن قضية التعديلات بعيداً مما ستؤول إليه نتائج الاستفتاء عليها الصيف المقبل، وبغض النظر عن قرارات محتملة للمحكمة الدستورية، فإنها تضع حزب «العدالة والتنمية» والتجربة الديموقراطية التركية في مفترق طرق، وهي التي كانت تجربة مبشرة طوال عقدها الأول. * كاتب مصري
مشاركة :