في زمن اضطراب الأوضاع في الواقع المعاش، وما يستدعيه ذلك من اضطراب المفاهيم، وتحديداً مفاهيم الخير والشر، وهو ما تعيشه بلداننا وشعوبنا العربية، يلعب تحرير المصطلحات بل والمفردات دورًا مهمًا في حركة اصطفاف الناس مع أو ضد حركة المجتمع للأمام أو للخلف. وإذا كان هذا المشهد قائما في كل بلد، فإن قوة تأثير الخلط بين مفهومي حرية الكلام وحرية التعبير تختلف من بلد إلى آخر. هذا الاختلاف لا يتعلق بمعنى المفهومين بقدر ما يتعلق بدرجة تطور المجتمع على مستوى البنى المادية الواقعية والمنظومة الفكرية المتسقة مع هذا الواقع. في بلدان الغرب، لا يزال الخلط قائما ورهان القوى المؤيدة للخلط ترفعه إلى مستوى الالتباس المعرفي. لكن الوعي بمدى صحة أو كيد التوظيف متقدم. في بلداننا، لا يزال الوعي بتوظيف الخلط بين المفاهيم متخلفًا وقد لا يكون مقصودًا كما هو الوضع في البلدان المتقدمة. وإذا كان تحرير المصطلحات بشكل معرفي يحتاج لجهد فلسفي - أكاديمي صارم، فإن مقاربته بشكل صحفي ليست خطيئة. ذلك، أن المقال الصحفي لا يستند بالضرورة إلى مقاربة معرفية - تاريخية لكيفية نشوء المصطلح ومراحل تطوره، بقدر ما يستند إلى خطر أو فائدة الخلط. المشكلة لدينا، أن المؤثرين في الرأي العام - مع كل الاحترام لقلة من الباحثين الجديين - يزعمون في مجال الدفاع أو الهجوم على الاستناد إلى أقوال مشهورة ومقطوعة عن سياقاتها التاريخية في تأييد الخلط بين مفهوم حرية الكلام وحرية التعبير وهذا ضار بالمفهومين.. كيف ؟ في بلداننا، يعترف العديد من المؤثرين في الرأي العام بوجود اختلاف بين ما يقال في الفضاء العام وما يقال في الفضاء الخاص. أي أن بإمكاني - عبر حرية الكلام - في الفضاء الخاص استخدام مفاهيم ومصطلحات ومفردات بذيئة وعنصرية وحتى شاذة تجاه أفراد أو جماعات دون أن يظهر ذلك فيما أكتبه أو أناقشه في الفضاء العام. هذا السلوك الميكانيكي، له علاقة عضوية في التأثير الجيد أو السيئ لهذا المؤثر الذي قد يكون حسن النية. الأسوأ من ذلك، أن هذا المؤثر، عندما يتم لفت نظره إلى خطورة ما يقول، يقفز لما هو أخطر. «ما أقوله رأي وحرية الرأي مكفولة للجميع». هذا كلام يمكن التسامح معه لأسباب تاريخية راهنة، لكنه يساهم بشكل واضح في تغليب كلام خطر يساهم في تعزيز «رأي عنصري» مزعوم وقائم. ثم، وبقفزة إلى الأمام يجري الاستشهاد بـ «فولتير» العظيم والمفترى عليه اليوم. ماذا يقول فولتير «أنا لا أتفق مع ما تقول، لكنني سأناضل حتى الموت من أجل أن تملك الحق لتقوله». هل كان فولتير سيموت من أجل رأي لا يوافق عليه أم لحق الآخر في قوله ؟ هل الموضوع يخص الرأي أم حق صاحبه في قوله؟ في بلداننا ليس مهمًا ما في النص من التباس ربما لم يكن فولتير يتخيله، بقدر ما هناك قصور في فهم المعاني للمصطلحات والمفاهيم والكلمات. ماذا نسمي من يستخدم في كلامه ألفاظًا بذيئة وعنصرية تجاه بشر متساوين في الحقوق والواجبات كأسنان المشط لا يفرقهم إلا التقوى؟ لا بد من الإقرار بأن التخلف مسئول جزئيًا عن هذا الخلط غير المتعمد ربما في بلداننا. لكن الشيء المؤكد، أن هذا الخلط قد جرى تجاوزه في العديد من البلدان المتقدمة، بالرغم من جهود القوى اليمينية العنصرية المتطرفة، التي تستبدل اليوم الالتباسات الحاصلة جراء استفحال أزمات النظام الاقتصادي القائم، لبعث خزعبلات الفكر النازي حول تفوق وتدني هذا العرق أو ذاك، تحت دعاوى الواقع و«الحقائق العلمية الجديدة على المسرح الدولي». كيف يمكن لقوى اليمين الشعبوي العنصرية المناداة بالتجديد الاقتصادي والاجتماعي وهي التي تعلن ولاءها وتمجد أفكار وزعامات هتلر وموسوليني والجنرال بتان بشكل مباشر واضح أو بشكل مموه. فكر خرافي ومجرم يتفق حتى اليمينيون المعتدلون على أنه عار على البشرية ومكانه مزبلة التاريخ. في مقال للفيلسوف روين أوجين نشر في جريدة لبراسيون الفرنسية في 4 ديسمبر2016م يؤكد أوجين على حق الإنسان في إثبات ذاته وأفكاره مهما كانت صادمة أو غبية، لكن السؤال لا يتعلق بذلك بقدر ما يتعلق باحترام الآخرين كما يؤكد فولتير. ونضيف ان احترام الآخرين وحقهم في قول أفكارهم لا يعني بأي حال تبني هذه الأفكار التي لا نتفق معها ولن نموت في سبيلها وإنما في سبيل أفكارنا التي تعطي الحق المطلق لغيرنا بقول آرائهم. ثم، لا بد من التأكيد على ضرورة عدم الخلط بين الرأي الذي لصاحبه الحق بقوله والكلام «الممنوع بحكم الضمير واحترام الآخر». هذا النوع من حرية الكلام، وبحكم التجربة الإنسانية القاسية ممنوع ومن حق القضاء ملاحقته وتجريمه.
مشاركة :