عذراً أطفالَ وطني؛ لأن هداياكم في الأعياد لم تكن ألعاباً وحلوى؛ بل كانت موتاً وفزعاً وآلاماً على يد الكبار دونما ذنبٍ أو جريرة! عذراً؛ إذ طغى زئير أسلحة الحرب المتوحشة على أصوات ضحكاتكم، واغتال رصاصها الأعمى براءة أعماركم! عذراً؛ إذ كانت دماؤُكم هي المداد الذي "شخبطتم" به آخر حكايات الرحيل والوداع على دفاتركم الصغيرة الممزَّقة في مدارسكم المنكوبة! عذراً؛ إذ كان فيكم رُضّعٌ، لم يعرفوا بعد أرحام أمهاتهم، إلا المستشفى الذي شهد خروجهم إلى الحياة، ثم خروجهم منها في أيامٍ معدودات؛ لأن آلات الفناء التي تجوب سماءكم، لم ترحم كبيراً ولا صغيراً، ولا حتى رضيعاً! عذراً؛ لأن طفولتكم استوجبت أن تكونوا رقماً صعباً في أي معادلة من معادلات الإنسانية، لكن لا إنسانية البشر جعلتكم رقماً حيادياً، لا يُحسَبُ له حساب، ولا يغير شيئاً في معادلة الصراع الوحشي الدائر على أرضكم! عذراً؛ لأنكم تحولتم إلى أرقامٍ متصاعدة في عداد القتلى، تستدعيها ذاكرة الجميع كلما احتاج أحدهم ورقة ضغطٍ رابحة في ألعاب المكايدة السياسية والابتزاز الإنساني، وفي مؤتمرات تراشق الاتهامات وتدبيج عبارات القلق والتنديد والشجب والتهديد والاستنكار والوعيد من كبار اللاعبين، وفي وصلات الشتم والسب واللوم والندب من صغارهم! عذراً؛ إذ تمر أخبار موتكم مرور الكرام.. ربما لو لم تكونوا من أبناء شعوب "القاع"، أو كان مشهد رحيلكم أكثر "دراماتيكية" و"هوليوودية" بعيداً عن الأوطان، أو على شواطئ البلدان "المتحضرة"، لوجدتم مصوراً عالمياً يلتقط صوراً لأجسادكم المُثْخَنة بجراحات الموت والغدر والخذلان، ويطبق عليها حِرفية المونتاج والإخراج، ليجعل ما هي على الحقيقة مأساة، تبدو كمأساة لا سابقة لها، موجعة، مبكية، تثلم القلوب! والأهم من ذلك، تصلح للنشر بعناوين عريضة على الصفحات الأولى في الصحف العالمية، لتغدو، فيما بعد، طعماً مثيراً وسهلاً يستنهض همم أبطال الغضبات "الفيسبوكية" المزلزِلة، فيتلقفونها على هامش أوقاتهم، ويعيدون نشرها بغية التأثير في الضمير الجمعي، وإحداث هزة في النظام العالمي -المتآمر أصلاً- والذي نشرها ابتداء.. فيدّعي الهزة والصدمة، وينفعلُ للمأساة، ضميرٌ غربي منافق، وشرقي أشد نفاقاً، وما ذاك إلا لحاجاتٍ في أنفسهم.. قضَوها. عذراً؛ لأنكم قاسيتم أهوال جحيم الحرب على مرأى ومسمعٍ منا جميعاً، ورغم ذلك، بقينا مستغرقين في ذواتنا، ماضين في حيواتنا، دون أدنى إحساسٍ بالمسؤولية الإنسانية والأخلاقية تجاهكم، وكأنكم مخلوقاتٌ غريبة تسكن في أقاصي المجرة، لا نعلم من أخبارها شيئاً. وحين ضج العالم بأنبائكم المفجعة، لبسنا قناع الذهول والمفاجأة، وثارت، على حين غرة، زوابعنا "الافتراضية" في الفضاءات "الافتراضية"، فتفجرت سيولٌ من البكاء والدعاء والرثاء، وتهاطلت زخاتٌ من الاتهامات والملامات في كل مكان، فكل أهل الأرض مذنبون متآمرون، شركاء في الجريمة الآثمة، إلا نحن! وبعد هدوء عواصفنا "الافتراضية"، تنفسنا الصعداء، وَعُدنا سيرتنا الأولى، فقد تمت مهمة تعاطفنا "الافتراضي" بنجاح، وإلى مهمة أخرى.. عذراً أطفالَ وطني؛ لأننا في لا وعينا، وفي وعينا، تغافلنا عن حقيقة أنكم مثلنا، آدميون من لحمٍ ودم، واعدناكم مجرد صورٍ ثنائية البعد، ننشرها ونتشاركها، ثم نمحوها كي لا تثقل ذواكر أجهزتنا، وننساها كي لا ترهق ذواكر رؤوسنا، وما ذاك لأنكم أهلٌ للنسيان؛ بل لأننا، نحن، لا نستحق شرف الذكرى! عذراً؛ لأنكم من ضمن كلماتٍ أكتبها، ويكتبها سواي، وننقّحها ونحررها ثم ننشرها، فتنال استحسان البعض، واستهجان البعض الآخر، لتصبح، فيما بعد، تاريخاً ماضياً ومُهمَلاً في أرشيف كلّ منا! عذراً أطفال وطني.. فجلالُ موتكم أعظم من كلماتنا وأهم من ثوراتنا، ومن فورة غضب الغاضبين ونواح النائحين ونحيب المنتحبين.. كلما انتبهوا، من آنٍ لآن! وفيمَ اعتذارنا لكم؟! فأنتم الآن في غنى عن تغريد المغردين، وزئير الزائرين، ونعيق المناضلين بالحناجر، وقعقعة المقعقعين بالطناجر. بل لعمري، نحن أحق بالرثاء والنحيب منكم؛ إذ إنكم رحلتم عن دنيانا الفانية، ووجدتم ما وعد ربكم حقاً، فكان يوم موتكم إيذاناً ببدء حياتكم الخالدة، ونعياً للبقية الباقية من فتات ضمائرنا وإنسانيتنا.. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :