... غالباً ما كان يجري الحديث منذ اندلاع الثورة في سورية قبل أقلّ من ستة أعوام عن تورُّط «حزب الله» ومشاركته في العمليات العسكرية، لكن الجديد الآن هو ما يتمّ تَداوُله عن إمكان خروج الحزب من المستنقع السوري، الذي كاد أن يغرق فيه العالم بأسره، بعدما لعبتْ قواته أدواراً مفصلية في سير المعارك ومسار الحرب في الميدان والسياسة، وخصوصاً منذ العام 2013. لماذا ذهب «حزب الله» ولماذا يعود؟ هل يستمرّ بقتاله في سورية، وفي ظل أي وقائع يمكن أن ينسحب؟ ما الملابسات التي رافقتْ الكلام الأول من نوعه عن ضرورة خروجه، وكيف يتمّ تبرير استمرار وجوده؟... وتالياً ما المعطيات الفعلية التي تحوط المواجهة السياسية على هذا المستوى في ضوء المتغيرات التي تشهدها سورية الآن؟ عندما بلغ «الربيع العربي» سورية على وقع التظاهرات السلمية التي انفجرتْ في غير مدينة، توجّس «حزب الله» على حديقته الخلفية وحبل سرّته مع إيران، فسارع الى صوغ رؤية من حدّيْن: أدنى يلحّ فيها على الرئيس السوري بشار الأسد القيام بجرعات إصلاحية لاستيعاب الغضبة الشعبية التي تنادي بالتغيير، وحدّ أَقصى يستند الى خلاصةٍ حاسمة بأن مصير «حزب الله» يرتبط بمصير الأسد وهو سيكون الهدف الثاني إذا أطيح بالنظام السوري ورأسه. لم يستجب الأسد الذي اكتفى بخطوات شكلية، خجولة ومتأخرة بعدما أطلق العنان لعمليات قمع أمنية للحركة الاحتجاجية التي واجهتْ بالصدور العارية في بادئ الأمر عنف النظام الذي جرّها الى «العسْكرة» ما أفسح أمام الخارج «الاستثمار» في المواجهة التي تحوّلت حرب مصالح إقليمية ودولية بلا هوادة على أرض سورية التي استقطبتْ ميليشيات وإرهاباً من كل حدب وصوب. 2011، 2013، 2015، و2016... هذه هي التواريخ التي تشكّل محطات بارزة في سياق مشاركة «حزب الله» العسكرية في سورية، التي كان أوّل الواصلين إليها ودفَع أثماناً لا يستهان بها من جرائها رغم مراكمة خبرات يفاخر بتحقيقها. فهو خسر في أتونها نحو 1600 مقاتل وقيادي وسقط له فيها نحو 7000 جريح، رغم تحوّله الى ما يشبه «جيشاً نقّالاً» يقاتل على جغرافيا شاسعة. في الـ 2011، اكتفى «حزب الله» بإيفاد العشرات من كوادره الخبيرة كـ «مستشارين» لتمكين النظام السوري وجيشه من التكيّف مع التحديات الجديدة والعمل على احتواء حركة الاحتجاج المتعاظمة، فوضع خبراته العسكرية التي اكتسبها في المواجهة مع إسرائيل في جنوب لبنان بتصرّف الجيش السوري «الكلاسيكي» الذي سرعان ما اهتزّ تحت وطأة الانتفاضة السلمية التي كانت تنادي بإسقاط النظام. في الـ 2013، وبعد «فتوى» نادرة لمرشد الجمهورية الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي جعلتْ سورية «أرض جهاد»، انتقل «حزب الله» بترسانته العسكرية وعلى متن دوافع أيديولوجية واستراتيجية للقتال في سورية من بوابة القصير المتاخمة للحدود اللبنانية، فزجّ بالآلاف من مقاتليه وبما أمكن من شعاراتٍ لتبرير تدخُّله العسكري، ونجَح في إبعاد خطر سقوط دمشق التي كانت على وشك الانهيار مع تلويح المعارضة بـ «معركة دمشق الكبرى». في الـ 2015، كان ميزان القوى العسكري يزداد اختلالاً لمصلحة القوى المناهِضة للأسد كالمعارضة في شقّيْها السياسي والعسكري، والجماعات المتطرّفة التي صعد نجمها كـ «داعش» و«النصرة» وأخواتهما ممن يعتمدون على تكتيكات كـ «الترويع» والزجّ بالآلاف في الجبهات، في الوقت الذي كان جيش النظام يزداد تَشتُّتاً وتتضاءل فاعلية الميليشيات الموالية لإيران في سدّ الثغر الامر الذي دفعهم للانكفاء الى المدن. وانطوى العام 2015 في منتصفه على تطور مفصلي في مسار الحرب السورية حين أدرك نظام الأسد وحلفاؤه استحالة حماية «الكانتون» الذي جرى الانكفاء إليه، ولم يكن أمامهم سوى الاستنجاد بروسيا المهجوسة باستعادة مكانتها في العالم من بوابة الشرق الأوسط بعدما غدر بها الغرب في غير مكان، كما حصل في ليبيا على سبيل المثال. فكان لهم ولها ما أرادوا حين دخلت موسكو المعركة من «الجو» في بادئ الأمر. وفي الـ 2016 وخصوصاً بعد سقوط مدينة حلب وتَبدُّل أدوار بعض اللاعبين الإقليميين كتركيا، وانكفاء لاعبين دوليين كالولايات المتحدة، استعجلت روسيا، التي تتفادى «أفغانستان أخرى» وقف إطلاق النار بتفاهُم مع أنقرة وطهران، ثم وضعتْ الحلّ السياسي على الطاولة بـ «التكافل والتضامن» مع تركيا... كلّها كانت مؤشرات دلّت على وقائع لا تصبّ في مصلحة «حزب الله» الذي ذهب الى سورية لا من أجل تحسين شروط التسوية السياسية بل من أجل تثبيت نظام الأسد في إطار المشروع «الممانع» الذي تقوده إيران. ورغم أن من المبكر بالتأكيد تَوقُّع عودة «حزب الله» من سورية الى «البيت اللبناني» ما دام «داعش» موجوداً و«فتح الشام» تتحصن في الميدان وتتمتّع بـ «حصانة» لم تنته بعد، فإن المؤشرات توحي بأن ملف «الميليشيات الأجنبية» في سورية شقّ طريقه الى المداولات. ومن تلك المؤشرات: * إعلان تركيا، التي تريدها روسيا حجر زاوية في التسوية السياسية، الحاجة الى انسحاب الميليشيات الأجنبية من سورية، ومطالبتها بعودة «حزب الله» الى لبنان. * الاختلاف الواضح في الأجندتيْن الروسية والإيرانية بعد معركة حلب وحيال المرحلة المقبلة في سورية، اذ ان موسكو تريد الإسراع في التسوية السياسية فيما طهران تريد المضي في تعديل موازين القوى على الأرض. * اضطرار إيران الى جلب تركيا الى طاولة المفاوضات كحاجة روسية – سورية وخصوصاً بعدما أدارتْ أنقرة ظهرها للولايات المتحدة وصارتْ أكثر استعداداً للانخراط في المواجهة ضد «داعش» الذي ارتدّ عليها أخيراً. * صحيح أن روسيا تحتاج لإيران وحلفائها «على الارض» في أي مواجهاتٍ في سورية، لكن الأصحّ أن هؤلاء لا يمكنهم إحراز أي تقدُّم أو حتى الصمود من دون روسيا «في الجو»، والعكس كذلك. والأهمّ في سياق الاستعجال الروسي والنقزة الإيرانية، هو أن الجميع «يحبس أنفاسه» في انتظار ظهور الخيْط الأبيض من الأسود في السياسة الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أَكثَرَ من إشاراتِ الانفتاح على التعاون مع الروس بقدر ما أظهر إشاراتٍ مناهضة لإيران. هذه المعادلة «الترامبية» قد تُترجَم في سورية على الأرجح تفاهماً روسياً - أميركياً على الحلّ استناداً لما قد تؤسّس له محادثات الأستانة، على حساب الارادة السورية الايرانية، رغم الطبيعة الاستراتيجية للعلاقة بين موسكو ودمشق وطهران وتَمكُّن الأخيرة من فرْض وقائع جديدة في سورية يصعب تغييرها. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان اهداف روسيا في سورية التقت في نقاط عدة مع ايران والاسد واختلفت في نقاط اخرى مثل توقيت وقف اطلاق النار والعجلة في الحلول السياسية والخلاف مع حلفائها في شأن استعادة كافة الاراضي السورية بالقوة العسكرية. إلا أنه رغم هذه التقديرات، فإن التقارير تشي بعكس ذلك في ضوء المعطيات التي تتحدّث عن أن إيران ومعها «حزب الله» يمضيان في حشْد المقاتلين استعداداً لمعارك مقبلة في جنوب حلب وغربها وشمالها وغوطة دمشق وربما في سواها بمعزل عن المشوار الشاقّ للتسوية السياسية التي من المتوقع ان تنطلق من الأستانة. وبهذا المعنى، فإن «حزب الله» الذي يَعتبر وجوده في سورية «شرعياً» وبناء على طلب من النظام الذي أنقذه من الانهيار، لن يسارع الى رفْع الرايات البيض والعودة الى لبنان نزولاً عند مقتضيات تسوية «الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل»، الا اذا ارادت دمشق ذلك فهو جزء من مشروعٍ إقليمي يملك الكثير من الأوراق، التي تعرفها موسكو ويمكن من خلالها مقارعة واشنطن، ولعلّ أهمها جعْل إسرائيل «رهينة» صواريخه عندما تقتضي الحاجة، تماماً كما فعل ايام ازمة الاسلحة الكيماوية حين كشف باراك اوباما عن رغبته في ضرب دمشق. وفي اعتقاد المهتمّين بمجريات الحرب السورية، ان وقف إطلاق النار الهشّ ما هو إلا استراحة بين عاصفتيْن وان المشوار الى الاستانة لن يكون أكثر من اختبار أولي للنيات، وتالياً فإن سورية مرشحة للبقاء فوق «الفوهة» حتى إشعار آخر رغم أن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة الأوضح فيها هو غموضها... فـ (قاسم سليماني) الذي يفاخر بصورته في العراق وسورية، لن يكون بعد الآن طليق اليد مع دونالد ترامب في العراق او يتصرّف على هواه مع فلاديمير بوتين في سورية. والاكثر اثارة في تحديد اتجاهات الريح في المرحلة المقبلة هو دور تركيا التي تقود المحور الشرق اوسطي في بلاد الشام لامتلاكها السيطرة اكثر من اي لاعب آخر على المعارضة السورية المسلحة والجهاديين الذين يحاربون جنباً الى جنب مع اعداء الاسد. فتركيا تنتظر هي ايضاً ظهور اشارات واضحة من دونالد ترامب ونياته تجاه انقرة اولاً والشرق الاوسط ثانياً لتسليم اوراقها كاملة للكرملين فتتقاسمها واشنطن وموسكو لابقاء التوازن بين الدول الشرق اوسطية الصديقة. ... في الأعوام الأخيرة من الحرب في العراق، والأعوام الأولى من الحرب في سورية، كانت المنطقة متروكة لـ «الدول الاقليمية». فـ (باراك اوباما) ترك العصا الغليظة وانكفأ حتى عن قيادة المركب من الخلف، وفلاديمير بوتين بدا وكأنه سلّم بالجلوس خلف أسوار نظامِ القطب الواحد وبخروجه من المنطقة وساحاتها اللاهبة، أما الآن فمن غير المستبعد ان تسود من جديد «لعبة الجبابرة» في الشرق الاوسط مع «القيصر» الذي عاد و«الكاوبوي» الذي ربما يعود.
مشاركة :