الدين والسياسة.. بين الأصولية الإسلامية والديمقراطية المسيحية بقلم: همام طه

  • 5/15/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

الجدل حول العلمانية في العالم العربي يعد من أكثر المواضيع التي يلجأ فيها الخطاب الأصولي إلى المخاتلات الفكرية والاصطلاحية وتمرير مشروع الأسلمة.العرب همام طه [نُشر في 2017/05/15، العدد: 10633، ص(13)]الأصوليات الدينية دائمة الوفاء لسياقات نشأتها العقلية الأصولية الدينية بطبيعتها انتقائية وغير موضوعية أو محايدة، إذ تختار الجماعات الإسلامية من التجربة السياسية العالمية والتاريخ الإنساني ما يدعم موقفها الأيديولوجي نظريا، وتترك ما لا يخدم سردياتها المستمدة من توظيف الدين في السياسة، لأن هدفها هو الجدل وتبرير الوجود وتبرئة الذات، وليس الوصول إلى المعرفة والخيار المفيد للمجتمعات. ويعد الجدل حول العلمانية في العالم العربي من أكثر المواضيع التي يلجأ فيها الخطاب الأصولي إلى المخاتلات الفكرية والاصطلاحية لتسويق أفكار مثل “دولة مدنية بمرجعية إسلامية” و”الديمقراطية الإسلامية” و”الفصل بين الدعوي والسياسي” وتمرير مشروع الأسلمة الذي يقصي التنوع ويصنّف الناس على أساس الانتماء الديني ويكرّس قلق الهوية. ومن تناقضات الخطاب الأصولي الانتقائي أنه يستدل في رفضه فصل الدين عن السياسة وحلّ أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة العربية بوجود أحزاب مسيحية منخرطة في الديمقراطيات الأوروبية تتنافس على السلطة وتصل إلى الحكم مثل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي ترأسه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل؛ لكن هذا الخطاب الأصولي نفسه يرد علينا عندما ننادي بالعلمانية في العالم العربي بالقول إنها مفهوم ينتمي إلى السياق الغربي وتبلور تاريخياً كشكل من التمرد على سطوة الكنيسة ولا يمكن تطبيقه في السياق الإسلامي، بمعنى أن الخطاب الأصولي يتعامل باجتزاء وازدواجية مع التجربة الأوروبية فيأخذ منها الأشكال المؤسسية الحديثة (الأحزاب) ويرفض البنى الفكرية والثقافية الحداثية (العلمانية).الخطاب الإسلامي يغفل أن الأحزاب المسيحية في أوروبا هي نتاج العلمانية والحداثة وليست مناوئة لهما يغفل الخطاب الإسلامي أن الأحزاب المسيحية في أوروبا هي نتاج العلمانية والحداثة وليست مناوئة لهما، أما أحزاب الإسلام السياسي في بلداننا فهي من مخرجات الأصوليـة الدينية ومعاداة الحداثة. على ذلك، فإن اليمين المتطرف بطابعه العنصري في الغرب هو الذي يقابل الأحزاب الإسلامية في منطقتنا وليس الأحزاب المسيحية الأوروبية التي لا تنادي بدولة دينية مسيحية، ولا تمارس التبشير الديني وليس لها أذرع دعوية أوخطاب فرز جهوي وجماعاتي، ولا تؤجج نزاعات الطوائف في الداخل وصراع الحضارات في الخارج. المستشارة أنجيلا ميركل مسيحية بروتستانتية وتترأس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي كان كاثوليكياً عند تأسيسه ويضم اليوم مسلمين في صفوفه؛ فهل يوجد في أعضاء الأحزاب الإسلامية مسيحيون أو يهود، أو سني يرأس حزباً شيعياً أو شيعي يرأس حزباً سنياً؟ تنطلق العقلية الأصولية من فكرة التباين بين الإسلام والمسيحية في إمكانية فصل الدين عن السياسة، فالإسلام في الوعي الأصولي “نظام شامل للحياة” ويختلف عن المسيحية واليهودية والبوذية في كونها مجرد “أديان” ذات طابع روحي وطقوسي؛ أما الإسلام فهو كما تقول أدبيات الإخوان “عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف” ولذلك لا يمكن عندهم فصله عن السياسة أو الحكم. وتزعم الأصولية أن الإسلام ليس فيه كهنوت أو رجال دين مثل المسيحية بل “علماء ودعاة”، وأن المؤسسة الدينية في الحالة الإسلامية لم تتورط في سلوكيات سلطوية ووصائية كما حصل مع الكنيسة في أوروبا خلال القرون الوسطى، لذلك لا ترى الأصولية الإسلامية مسوّغاً لاعتماد العلمانية عربياً لأنها كانت انقلاباً ورد فعل على هيمنة الكنيسة في الغرب. بمعنى أن مسعى الخطاب الإسلامي هو تأكيد التمايز التاريخي للإسلام من حيث بنيته النظرية والمؤسسية عن المسيحية، وهو ما يترتب عليه القول بتميّز الإسلام كعقيدة شمولية علوية وغير قابلة كغيرها للتأثر بإكراهات السلطة والسياسة والاجتماع والتاريخ، ومن ثمّ منحه امتياز الامتزاج بالسياسة من دون الأديان."الثقافة القبلية والأبوية" تفرض نفسها عربياً بينما يخضع الجميع في الغرب لـ"الثقافة المؤسسية" السائدة، فتتحول أحزابنا الإسلامية إلى ما يشبه "الطوائف" المغلقة المفارقة هنا أن هذا المنطق “الجوهراني” الذي يعتمده الخطاب الإسلامي في معارضة العلمانية عبر تمييزه بين جوهرَيْ الإسلام والمسيحية ورفضه المساواة بينهما في تطبيق مبدأ فصل الدين عن السياسة؛ يمكن أن نستدل به بسهولة على أهمية العلمانية لمجتمعاتنا وضرورة تفكيك الظاهرة الأصولية فيها حتى لا يتاح لتيار أيديولوجي يقول بأفضلية أحد الأديان على غيره في تنفيذ أجندته الإقصائية وتكريس نظرته التمييزية تجاه الأديان والمعتقدات المتعددة في المجتمع. فالمساواة بين الأديان من أهم أسس العقد الاجتماعي في الدولة العلمانية المدنية الحديثة، وهي تنطلق من المساواة بين الأفراد الذين يعتنقون هذه الأديان كمواطنين، وليس من مضمون أو قيمة الأديان ذاتها. تختلف الديمقراطية المسيحية عن “الديمقراطية الإسلامية” التي طرحها راشد الغنوشي قائلاً إن حركته “النهضة” التونسية انتقلت إليها وغادرت الإسلام السياسي، في أن الأولى جاءت من رحم تحولات سياسية واجتماعية وثقافية في أوروبا وقدمت المسيحية كدين استلهمته من المجتمع ولم تغيّر طبيعته أو تؤدلجه؛ في حين تعكس الثانية مشروع جماعة الإخوان المسلمين التي سعت منذ تأسيسها إلى تشكيل هوية دينية منعزلة عن المجتمع من جهة، وتخليق تأويل أحادي للإسلام يخدم أجندتها السلطوية التي تريد فرضها على المجتمع من جهة ثانية. لا ترفع الأحزاب المسيحية في أوروبا شعار “المسيحية هي الحل”، ولا تدخل مثل الإسلام السياسي في ما يسميه الكاتب السعودي بدر الإبراهيم “صراع الهوية” مع القوى الأخرى، فعلى الرغم من كونها أحزاباً مسيحية و”محافِظة” في أطرها العامة؛ إلا أنها مندمجة سياسياً واجتماعياً ضمن الفضاء العام وتنشط وفق مبادئ العلمانية الراسخة بحكم طبيعة الحياة العامة والأنساق والسياقات الثقافية والسياسية السائدة وبفعل التلازم الذي تبلور بين الديمقراطية والعلمانية، حيث لا يُعتبر الدين عقيدة شمولية أو انتماء قسرياً في التجربة الأوروبية، بل صار مسألة فردية وقيمية ولا يضر الحيّزيْن الشخصي والعام أن يقول حزب ما عن نفسه إنه “مسيحي”. أما العلمانية فأصبحت بنية ثقافية متكاملة متغلغلة في المجتمع والدولة وملزمة لكل المؤسسات الرسمية والمدنية والأحزاب ولا يتناقض معها أو ينقضها حتى يصف حزب نفسه بأنه مسيحي؛ فلا توجد في الغرب ثنائية “مسيحية” و”مسيحوية” كما “الإسلام” و”الإسلاموية” عندنا، ما يجعل وجود الأحزاب المسيحية الغربية مؤشراً على علمانية الدولة لا نقيضها، وأن مسيحية الحزب هي استلهام ثقافي معصرن وليست أدلجة وتبشيراً ثورياً، الأمر الذي يدل أيضاً على الفهم المتسامح غير العقائدي للدين. الأهم في هذا الجدل أن مفهوم الدين والسياق السياسي والثقافي مختلفان تماماً بين الغرب والعالم الإسلامي، حيث ظهرت “الديمقراطية المسيحية” التي تنهل منها الأحزاب المسيحية بموازاة الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وبعد انبثاق عصر الأنوار خلال القرن الثامن عشر، وعصر النهضة في القرن الرابع عشر؛ بمعنى أن الأحزاب المسيحية جاءت بعد ومع مخاض ثقافي وحضاري عاشته أوروبا وحراك صناعي وتنموي؛ في حين تطرح الأحزاب الإسلامية نفسها في سياق من الركود الثقافي والتأخر الصناعي والاقتصادي والانقسام الإثني والديني، فهذه الأحزاب المصابة بأمراض مجتمعاتها إلى جانب عطوبها البنيوية المتمثلة في الأصولية والسلفية تتسبب في مفاقمة الأزمات العامة لا معالجتها.من تناقضات الخطاب الأصولي الانتقائي أنه يستدل في رفضه فصل الدين عن السياسة وحلّ أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة العربية بوجود أحزاب مسيحية منخرطة في الديمقراطيات الأوروبية قطعت المجتمعات الأوروبية وبعد تجارب مريرة شوطاً كبيراً في مغادرة أو عقلنة “سياسات الهوية”؛ السرديات والخطابات السياسية التي تعرّف المجموعات من خلال الهوية العرقية أو الدينية أو الإثنية أو الثقافية، ما سمح بأن يفرض التنوع الثقافي نفسه وتترسخ مفاهيم المواطنة والفردية والمساواة ونبذ التمييز، حيث يشكّل هذا المناخ رأس مال اجتماعي تفاعلي يخفف من التداعيات السلبية لوجود حزب سياسي بهوية دينية “مسيحية” في مجتمع متعدد. هنالك بنية أصولية مهيمنة في العالم العربي وهي بنية غائبة في الحالة الغربية، ولذلك لا تمكن المقـارنة بين الأحزاب الإسلامـية في منطقـتنا والأحزاب المسيـحية في أوروبا. إضافة إلى أن “الثقافة القبلية والأبوية” تفرض نفسها عربياً بينما يخضع الجميع في الغرب لـ”الثقافة المؤسسية” السائدة، فتتحول أحزابنا الإسلامية إلى ما يشبه “الطوائف” المغلقة على أعضائها فيما تبقى الأحزاب المسيحية الغربية منفتحة على المجتمع على صعيد العضوية والبرنامج والخطاب كمؤسسات موضوعية المعايير وعامة لكل المواطنين في بنيتها البشرية وسياساتها. ظهرت الأحزاب المسيحية في أوروبا بعد سقوط الفاشية والنازية في حين أن الأحزاب الإسلامية تورطت في فاشية دينية مذهبية، وهي نتاج للعقلية الفاشية والغلو العقائدي وثقافة تقديس الانتماء وأحد تجلياتها.الأحزاب المسيحية ليبرالية محافِظة في حين أن الأحزاب الإسلامية شمولية متطرفة. وإذا كانت الأحزاب المسيحية تصنّف ضمن تيارات يمين أو يسار الوسط؛ فإن الإسلام السياسي يقبع في أقصى اليمين على المستوى الأيديولوجي مع براغماتية سياسية تحاكي الوسطية أو حتى اليسارية. وطغى في الأحزاب المسيحية الاهتمام بالبرنامج الاقتصادي والاجتماعي والرؤية التنموية على العنوان الديني؛ في حين مازال برنامج الإسلام السياسي الاقتصادي والاجتماعي دعائياً مرتبطاً بمشروع الأسلمة الشاملة والتبشير الأصولي وتأكيد شمولية الفكرة الدينية وعقيدتها الخلاصية والتحشيد السياسي والانتخابي.

مشاركة :