نشرت الصحف قبل أيام عدة، نتائج الدراسة الحكومية التي أعدتها وزارة الدولة لشؤون مجلس الأمة وكانت صدمة كبيرة للناس. الدهشة التي أصابت كل من قرأ توصيات الدراسة كانت بسبب الموضوع والشكل الخارجي لها. ما أريده هنا هو مناقشة هاتين النقطتين. الشيء اللافت أن الصحف التي تحدثت عن الدراسة قفزت مباشرة إلى النتائج والتوصيات وما اقتنع به المشرفون على هذه الدراسة. إلا أن أحداً لم يشرح من هي هذه الجهة ومن هم الأفراد الذين قاموا بالدراسة. نعلم أنها وزارة الدولة لشؤون مجلس الأمة، لكن ما هي المؤهلات لأولئك الذين قاموا بالدراسة ودرجة إلمامهم بإقامة بحوث احصائية على هذا المستوى من الأهمية والخطورة. طبعا هذا يجرنا إلى استفهامات كثيرة أخرى تتبع النقطة السابقة. مثلاً ما الدافع الذي جعل الوزارة وفريق العمل البحثي للقيام بهذه الدراسة؟ طلبة الأبحاث والعلوم في الدراسات العُليا وحتى الجامعية يعلمون جيداً أن السؤال العلمي والفرضيات التي تسبق العمل البحثي هي بمثابة الهدف المُراد التحقق منه والإجابة عنه من خلال البحث. فهذا السؤال وهذه الفرضيات يبدأ بها المقيّمون لتحكيم أهمية البحث. فلو كان السؤال مهماً، لانعكس ذلك مباشرة على أهمية ما قام به فريق العمل وما توصلوا إليه من توصيات. فأين الضرورة والسبب والأهداف التي دعت للقيام بهذه الدراسة وما الداعي لها؟ مضافا لما سبق يجب على الباحث أو فريق عمل الوزارة أن يحدثنا عن المنهجية التي اتبعها في البحث. فالمنهجية الطريق أو السبيل الذي سيحكم ويقيد حركة الباحث وفريق العمل وإلا فالخيارات التي يمكن أن يواجهها الباحث كثيرة ومعقدة. فمن دون الحديث عن المنهجية يصعب على أحد أن يقبل بالنتائج والتوصيات ويتبناها. والشيء الغريب في هذه الدراسة أنها لم تخبرنا تماماً عن أي شيء يتعلق بعينة الدراسة وحجمها. عينة الدراسة هي الممثل الشرعي والرئيسي للمجتمع المُراد استخلاص التوصيات عنه. فكيف يمكن أن نعكس هذه التوصيات ونتبناها ونقول بأنها علمية من دون أن نفهم ما هو حجم العينة، وما هي درجة تمثيلها للمجتمع، وهل تمثلت الأقليات والمذاهب والثقافات المتنوعة بالمجتمع بصورة صحيحة كما هو الواقع؟ ثم علينا أن نسأل عن الادوات الاحصائية التي استخدمها فريق العمل الحكومي. لعلماء الإحصاء كلام طويل عريض في هذا الباب ويبدأ التدخل العلمي الإحصائي عند لحظة تصميم أداة جمع البيانات والأسئلة ومن ثم فحصها علمياً للتأكد من خلوها من أي انحرافات إحصائية معتبرة. فالاسئلة في الاستبيانات لا توضع هكذا بمزاجية الباحث بل يجب أن تكون موثقة علمياً وبحثياً ومجربة نظرياً قبل أن تُعتمد وتوضع وتستخدم في أداة جمع البيانات. فهناك الكثير من الانحرافات التي قد ترد على أي دراسة لمجرد هفوة بسيطة في صياغة السؤال أو بسبب زيادة أو قلة في تمثيل بعض أطراف مجتمع الدراسة. من هنا نقول إن القفز ونشر التوصيات والنتائج ما هو إلا استخفاف بعقول الناس. الشعب له حق أن يفهم ما يجري من حوله، بمجرد أن تسبق أي توصية ونتائج عبارة «دراسة» لا تعني أنها أصبحت مشروعة ومقبولة! كان من الاجدر بمن سرّب هذه التوصيات أن يبدأ بنشر المعلومات المتعلقة بالجو المحيط بالبحث والأسباب التي دعت لذلك قبل القفز مباشرة ونشر النتائج. ما يستدعي أن نرتاب من هذه الشاكلة من الأبحاث أن «الحكومة» هي تحديداً من تقف وراءها. فالغريب في أمر هذا البحث ومضافا لكل ما سبق أن التوصيات تقول شيء والتوجهات الصحيحة والشرعية والقانونية بواد آخر تماماً. فمثلا الدراسة تشرح كيف أن الصوت الواحد فتت القبائل الكبيرة وأنه أعطى فرصة للقبائل الصغيرة والافخاذ لتأخذ حصتها. ثم فجأة توصي بأن الصوت الواحد سيئ وسلبي رغم أنه قضى على تأثير الفرعيات وأزاح تأثير «القبلية»! بشكل عام لا تهم التوصيات بقدر الخلفية الموضوعية والعلمية لهذه الأبحاث. فهناك قاعدة إحصائية معروفة تقول junk in، junk out. فأنظمة التحليل الاحصائي كبرنامج SPSS تعطيك تحليلات للأرقام حتى ولو كانت تافهة وغير مدروسة. ولا ننسى أن الدراسات يُمكن أن تُصاغ وتوضع وتُستخرج النتائج حسب ما يريده ولي نعمتها ومصدر رزقها، والأمثلة كثيرة وما الأبحاث بخصوص انواع الاغذية والمشروبات إلا شكل من هذه الاشكال. ثم كيف نصدق أن تجربة الصوت الواحد سيئ لدى الحكومة مع أنه أفرز لها مجلساً مسالماً لأبعد الحدود! فلو كانت الدراسة في حياة مجلس 2013 لشهدنا للحكومة بالموضوعية والنزاهة، لكن أن يُقام وتُنشر التوصيات في مجلس المعارضة 2016 فهذا يعني أن الحكومة تُبيّت لشيء ما. فرجاء قليلاً من خفة الدم وكثيراً من الاحترام لأن الناس لهم كرامة ويملكون الإرادة. hasabba@
مشاركة :