وقفت الأم أمام ابنها ومشاعر الحب الفياضة تشع من عينيها، حاملة إليه أغلى نصيحة يمكن أن تسديها له في حياتها، لعلها تكن عوناً له في حياته. قالت له بصوت كله حنان وحزم، يا بُنَّي: اعلم أن أي ثروة مادية ستجمعها يمكن أن تفقدها أو تسلب منك في لحظة، إلا الثروة التي تجمعها هنا، وأشارت إلى عقله. وضع الفتي هذه النصيحة الغالية نصب عينيه، كأنما وقع على كنز، وانكب على منابع هذه الثروة هنا وهناك، ينهل من ينابيعها الفياضة، ويصبها في عقله رحيقاً من ينابيع العلم. عمل الفتي مدرساً للغة الإنجليزية مثل ملايين المدرسين في العالم، لكنه لم يكن مثلهم، دَرَّسَ اللغة الإنجليزية ١٥ عاماً، بالطريقة التقليدية التي يُدَرِّسْ بها زملاؤه، لكنه كان مشغولاً بثروته الفكرية، في الوقت الذي انشغلوا هم بثروتهم المادية، فبدأ يفترق عنهم، ويسير هو في طريق آخر، باحثاً عن طريقة يُعَلِّمْ بها اللغة الإنجليزية لمن لا يتكلمون بها في أقل فترة زمنية ممكنة، وبعد محاولات كثيرة وجهد مضني وتفكير عميق، نجح الأستاذ في اكتشاف طريقة تساعده على تحقيق ذلك خلال أيام، لم يكن يستخدم كتب، ولا يعطي واجبات، ويقول للطلاب لا تحفظوا، ويلتقي بهم في أماكن غير تقليدية، وكانت النتائج مذهلة. استهوت هذه النتائج الدكتور وايت وودسمول Waytt Woodsmall وزوجتة مارلين وودسمول Marllyne Woodsmall، في أمريكا، المتخصصان في نمذجة الناجحين والمبدعين واستخراج الاستراتيجيات التي يستخدمونها في صناعة ابداعهم والتي تجعل منهم خبراء نادرين على مستوى العالم في انجازاتهم، فقررا أن يدرسا معاً هذا الأستاذ الأمريكي مايكل توماس، ويستخرجا نموذج النجاح الخاص به. ظل وايت ومارلين لأكثر من 3 سنوات يلتقيان به، على فترات، ويحضرا دوراته التي يطبق فيها طريقته، ويجلسا معه بالساعات لاستنباط هذه الاستراتيجية الخاصة به، وكتبا عنه كتاباً بعنوان مستقبل التعلم The Future of Learning، والكتاب موجود في أمازون، صدر عام 2008، ودار حوار بيني وبين وايت وزوجته مارلين عن مايكل توماس وطريقته، وقد اعتبراه المعلم النموذج للتعلم في المستقبل. والآن دعوني أتجاوز نصيحة الأم لابنها، وأتخيل هذه النصيحة في سياق آخر، أكبر بكثير من الفرد. دعونا نتخيل هذه النصيحة لدولة أو لأمة، ولن نتعب كثيراً لنرى آثارها الآن أمام أعيننا، فالدول التي حرصت على هذه الثروة التي لا تَنْضُبْ، هي الدول الصناعية الكبرى في العالم الآن، وهي التي تتحكم في باقي دول العالم، بل إن منها من لا يمتلك أي ثروات معدنية ولا قطرة بترول ولا حتى أرضاً مستقرة لا تدمرها الزلازل والبراكين من وقت لآخر، مثل اليابان. بينما سنرى دول كثيرة تمتلك الثروات المادية والمصادر الطبيعية والأنهار والبحار، لكنها لا تنتج غذائها ولا دوائها ولا سلاحها، وفوق ذلك تجد أن غول الفقر يلتهم سكانها فيموتون من الجوع والفقر والمرض، أو يقف على أبواب دول أخرى ينتظر الدخول إذا استمرت في إهمال الثروة التي لا تَنْضُبْ، والاعتماد على الثروة التي تَنْضُبْ، فمتى تفيق هذه الدول، وتستثمر في الثروة الحقيقية التي لا تَنْضُبْ، وهي عقول أبنائها. aminghaleb@gmail.com
مشاركة :