التفكير الاقتصادي التكاملي لا يحتاج إلى الكثير من الخطب والشعارات، إنه يتجه مباشرة إلى ما هو مفيد للجميع ويعطي أولوية للنمو عن تجربته التي قام بها عشرات المرات وأجراها على الكثير من الأطفال يخبرنا صاحب كتاب (مجرد أطفال) عالم النفس بول بلوم. كان يؤتى في تلك التجربة بطفل في السابعة من عمره مع أحد أقرانه لتقدم لهم بعض الهدايا. ثم يوضع الطفل أمام خيارين، أحدهما أن يأخذ هدية واحدة فقط ويأخذ نظيره هدية من النوع نفسه أيضا. والثاني أن يأخذ الطفل هديتين ويأخذ الآخر ثلاث هدايا من النوع نفسه كذلك. لقد انتهت 87% من التجارب بأن اكتفى الطفل بهدية واحدة مقابل عدم تفوق قرينه عليه! لعل في هذا إشارة إلى أن ثمة جانبا في تكويننا يكره تفوق الآخرين علينا بحيازة ما هو محبب، حتى ولو كان تفوقه يعود علينا ببعض النفع أحيانا. ولكن هل تنجح التنشئة والثقافة في القضاء على هذا الجانب من شخصياتنا؟ يبدو أن ذلك صعب جدا، وهذا ما قد تؤكده نتائج استبيان أجراه الاقتصادي (روبرت فرانك) على بعض السيدات الأميركيات، إذ أظهر استبيانه بأن أغلب المستهدفات فضلن أن يكون دخلهن السنوي 100 ألف دولار، على أن يكون دخل جاراتهن أو صديقاتهن 85 ألف دولار فقط، على الخيار الآخر الذي تضمنه الاستبيان وهو أن يكون دخلهن 120 ألف دولار، بينما يصل دخل الأخريات إلى 200 ألف دولار. يشعر أغلب الناس بثرائه أو فقره من خلال المقارنة بالآخرين، وخصوصا أولئك الذين يقعون في دائرة تعامله المباشر، وهو ما يجعل البعض يفضل أن تنقص ثروات من حوله، حتى لو كان في ذلك خسارته أيضا. لعل هذا ما دعا هيغل إلى وصف الحسد بأنه "أغبى الرذائل"، حيث لم يجد فيه أي منفعة تعود على صاحبه. في الحقيقة ليس فلاسفة الأخلاق فقط من يتبنون هذه النظرة تجاه الحسد، بل لعل أغلب من يمقتها هم الاقتصاديون الأذكياء والتجار الناجحون. شرح لي ذات مرة أحد أقاربي العاملين بالتجارة منذ نعومة أظفاره تقريبا، كيف أن التاجر الذكي هو ذلك الذي عندما لا تجد مرادك عنده يعمل على مساعدتك على شرائه من أحد جيرانه، وإن كانا منافسا له بشكل من الأشكال، لأن الحفاظ عليك كزبون دائم للسوق نفسه وعدم انصرافك عنه يعد مكسبا للجميع. رغم التجربة المُرة التي جسدها انفصال سنغافورة عن الاتحاد الماليزي إلا أننا لا نملك إلا أن نعجب بالبراجماتية الماليزية التي تعمل باستمرار على تكثيف التعاون الاقتصادي مع السنغافوريين، من أجل الاستفادة من النمو الاقتصادي لذلك البلد، ومن الأمثلة الأخيرة لذلك ما أنفق على مشروع التطوير السياحي لمنطقة جوهور المتاخمة لسنغافورة، ونجاحه في استقطاب معظم السنغافوريين لقضاء عطل آخر الأسبوع في ماليزيا. هذه الطريقة التكاملية في التفكير هي ما تجعل آمال ذوي الإدراك الاقتصادي السليم تتجه نحو السعي إلى ثراء الجيران والأقران، فما فائدة أن تمارس نشاطا تجاريا في حي يقطنه العاجزون عن الشراء؟ لم يتمتع نظام صدام حسين بتلك العقلية البراجماتية الماليزية عندما غزا الكويت وورط بلاده والمنطقة بأسرها في مغامرة ما زال يدفع تكلفتها الجميع. ماذا لو بحث نظامه حينها الطرق الاقتصادية المتاحة للاستفادة من "البحبوحة" التي كان ينعم بها الكويتيون؟ ماذا لو أقام معهم عقودا طويلة المدى من التعاون التجاري؟ خصوصا أن بلاده كانت ترتكز على الكثير من المقومات الاستراتيجية التي كان يفتقر إليها أغلب جيرانها؟ التفكير الاقتصادي التكاملي لا يحتاج إلى الكثير من الخطب والشعارات، إنه يتجه مباشرة إلى ما هو مفيد للجميع ويعطي أولوية للنمو، محترزا من الإغواء الطفولي لدعوات المساواة. فرغم كون المساواة في ذاتها أمرا محببا ألا أن الفيلسوف البريطاني جوليان باجيني كان محقا عندما قال: "ليس أسهل من الوصول إلى المساواة من خلال جعل الجميع بالمستوى الذي يكون عليه أفقر واحد في المجتمع".
مشاركة :