البديل الذي تحاول بعض الأحزاب الإسلامية أن تشكله، لا يمكن أن يقوم على فلسفة واضحة عمادها فك الارتباط مع الذهنية النكوصية التي يأسرها الحنين إلى الدولة الدينية القديمة بشكلها الوطني أو بشكلها العابر للحدود، والمتمثل في نموذج دولة الخلافة. العربأزراج عمر [نُشرفي2017/01/19، العدد: 10517، ص(9)] في هذا الأسبوع صرح رئيس “حزب الفجر الجديد” الطاهر بن بعيبش للصحافة الوطنية بأن حزبه سيشارك في الانتخابات التشريعية القادمة، ما يعني أنه لن ينساق وراء مواقف بعض الأحزاب التي تفضل مقـاطعتها، وفي مقدمتها حزب طلائع الأحرار الذي يقوده رئيس الـوزراء الجـزائري الأسبـق علي بن فليس الذي أعلن مؤخرا عن عدم مشاركة حزبه فيها معتبرا انسحابه ضربة للنظام الحاكم، وحجته في ذلك هو أن أي شكل من أشكال المشاركة يعني الموافقة على التـزوير المنتظر مسبقا مـن جهة، وإعطاء الشرعية للواقع السياسي المفروض فرضا من طرف السلطة على الأحزاب والحياة السياسية الجزائرية من جهة أخرى. لا شك أن موقف بن فليس، المنسحب رسميا من الانتخابات التشريعية القادمة، ناتج عن تجربته السابقة المرّة حينما ترشح للرئاسيات في العام 2004 وأدرك حينذاك أن لعبة الانتخابات لم تكن نزيهة بأي معيار من المعايير. وفي هذا السياق نتساءل: ماذا يعني رئيس حزب الفجر الجديد بأن مشاركة حزبه هي رد فعل طبيعي لغياب البديل السياسي في البلاد، وماذا يقصد بذلك بالضبط؟ وهل نفهم منه أن انعدام وحدة صفوف المعارضة، بما في ذلك الأحزاب الإسلامية، سوف لن يحدث أي تغيير جوهري في الواقع السياسي الجزائري وأن أحزاب الموالاة ستكتسح الانتخابات القادمة، الأمر الذي سيؤدي لبقاء الوضع السياسي على حاله جامدا ونمطيا؟ ثم ما هو مفهوم البديل السياسي لدى الأحزاب الجزائرية شبه العلمانية المعارضة، ولدى الأحزاب الإسلامية ذات المرجعيات العقائدية المختلفة إلى حد التناقض في الغالب؟ للإجابة على هذه الأسئلة ينبغي أولا إلقاء نظرة سريعة على المشكلة الجزائرية الجوهرية التي لم تجد حلا منذ الاستقلال إلى يومنا هـذا. وفي الحقيقة فإن هذه المشكلة المعقدة تتمثل أساسا في كون الذهنية المتحكمة في الحياة السياسية الجزائرية هي ذهنية عسكرية وأمنية بالدرجة الأولى، تدعمها ثقافة تقليدية متحجرة تتحكم في مفاصل المجتمع برمته، وهي في التحليل الأخير ثقافة العصا الغليظة بأبعادها السياسية والاجتماعية الأحادية التي تقرر كل شيء، حيث أن هذا النمط من الثقافة يحول دون ابتكار أي بديل سياسي يتجاوز هذه الذهنية في الوقت الراهن. لقد توصل المفكر والسياسي الجزائري الراحل مصطفى الأشرف إلى إبراز هذه المشكلة الحادة بقوله “إن هذه الثقافة إنما هي ثمرة هجينة تمخض عنها مجتمع يعاني من النقائص، ولذلك فإمكانياتها محدودة”، وتتضح الصورة أكثر حين يلاحظ المرء أن هذا النمط من الثقافة السائدة، التي لم تتحرر منها السلطة والمعارضة معا، هو الذي أفرز ولا يزال يفرز “سياسة قائمة على العصبية والإقطاعية أو على البرجوازية الانتهازية المتظاهرة بالإصلاح” وفق تعبير الأشرف نفسه. بناء على هذا، فإن انعدام البديل السياسي هو نتيجة للبنية الثقافية السياسية الجزائرية المحكومة فعلا بهذا الثالوث الخطير، الذي يجهض باستمرار أي محاولة للانتقال إلى طور بناء أو حتى محاكاة نموذج الدولة الديمقراطية، التي تعرفها الكثير من التجارب السياسية في العالم المعاصر. وفي الـواقع، فإن معطيات تجارب الأحزاب الجزائرية بمختلف ألوانها، منذ فتح المجال الضيق طبعا للتعددية الحزبية الشكلية وفق سيناريوهات النظام الحاكم بدءا من ثمانينات القرن الماضي حتى يومنا هذا، لا نعثر فيها على منظومة فكرية تنويرية وحداثية يمكن أن تكون بمثابة خارطة طريق بموجبها تحدث القطيعة الراديكالية مع نمط المجتمع المتخلف، ومؤسسة في الوقت نفسه على الفهم العلمي لمصطلح “البديل السياسي” خارج سياق إعادة إنتاج نمطية استبدال هذا الرئيس بذاك الرئيس الآخر، مع تكريس الأمر الواقع المتمثل في إبقاء الخيـارات السياسية القـديمة والمغرقة في التقليدية على حالها، أو إحلال محلها خيارات مرتجلة أكثر تخلّفا وتناقضا مع مصالح المواطنين والمواطنات كما هو الحال في المرحلة التي بدأت مع الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وتعمقت في مرحلة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة والتي يتلخص جوهرها في تحطيم أعراف وأخلاقيات التضامن الاجتماعي عن طريق تشكيل مجتمع التفاوت الاقتصادي المنتج للعنف المادي والرمزي، وكذا خلق قطاع خاص استغلالي غير منتج للثروة ويرتزق فقط من ريع النفط، وتسيير أزمات البطالة، وتدمير المنظومة التعليمية بكل مستوياتها، فضلا عن فرض ثقافة اجتماعية دخيلة حولت إلى ناظم بنيوي جعل ولا يزال يجعل كل ما هم وطني عمومي ملفوظا ومداسا. في مثل هذا المناخ الملوث فإن البديل الإسلامي، الذي تحاول بعض الأحزاب الإسلامية أن تشكله على أساس آلية التكامل البراغماتي المؤقت في ما بينها حينا في وقت الانتخابات فقط، وحينا آخر عن طريق التلويح بتوحيد نفسها تنظيميا رغم تناقضاتها العقائدية العميقة، لا يمكن أن يؤدي إلى بناء تحالف عضوي حقيقي ودائم في صورة حزب عصري كبير وموحد وله شرعية مدنية، ويقوم على فلسفة سياسية واضحة عمادها فك الارتباط مع الذهنية النكـوصية التي يأسرها الحنـين إلى استعادة الدولة الدينية القديمة سواء بشكلها الوطني أو بشكلها العابر للحدود الوطنية، والمتمثل في نموذج دولة الخلافة الإسلامية. أما البديل الآخر، الذي تلوّح به الأحزاب المعارضة الأخرى والمدعو بالعلماني، فهو ضبابي وغير واضح المعالم على صعيد العقيدة الفكرية السياسية أو على الصعيد التنظيمي، حيث أن البارز للعيان هـو أن هذه الأحزاب تتقاسم مع النظام الحاكم التمترس في النموذج الجزائري المتخلف للتطبيقات الرأسمالية الفجة المستوردة وفـرضه على الإنسان الجـزائري الـذي لا يزال لم يخرج بعد من مركَب الثقافة الإقطاعية البدائية والعشائرية والجهوية والعائلية المغلقة على نفسها، وهو المركب البنيوي الذي يعاد إنتـاجه في الممارسة السيـاسية وفي العـلاقات الاجتماعية، ويلعب دور السياج الفولاذي الذي يحول دون بناء أي مشروع اجتماعي وثقافي عصـري ومتطـور ينتج عنـه البديـل السياسي المنشود. كاتب جزائري أزراج عمر :: مقالات أخرى لـ أزراج عمر الجزائر: البديل السياسي المفقود, 2017/01/19 درس من الشاعر إليوت, 2017/01/13 أي مستقبل ينتظر أحزاب المعارضة الجزائرية, 2017/01/12 المشروع الشعري المفقود , 2017/01/06 الجزائر: احتجاجات على غياب الدولة الوطنية العادلة, 2017/01/05 أرشيف الكاتب
مشاركة :