الانتصار على الإرهاب ليس وشيكا سعيد ناشيد القتال لدى الجهاديين واجب ومن ثم يأتي اختيار المعركة قد نختلف في مستويات التّحليل، وهذا طبيعي، لكن المشهد الإجمالي يبدو على النّحو التّالي: من جهة أولى هناك إرهاب معولم، ومن جهة ثانية هناك حرب عالمية على الإرهاب. طبيعي أن يبحث كل معسكر عن تحقيق انتصار ساحق ينهي الحرب لصالحه. ولسنا ننكر بأن تاريخ البشرية في مجمله مليء بالحروب التي لا تُعدّ ولا تُحصى، إلا أنّ الحرب هذه المرة -على الإرهاب- تتضمّن معطى جديدا. ما هو؟ في تاريخ الحروب كان كل طرف من الطرفين المتحاربين يعتبر انتصاره مجرّد وسيلة لأجل تحقيق السلام، سواء لنفسه أو لأبنائه أو للبشرية جمعاء. ما يعني أن الانتصار في تاريخ الحروب كان يُقدّم كوسيلة لتحقيق غاية أسمى، ألا وهي أن ينعم المحارب بعد انتهاء الحرب بالسلام. هذا بالضبط ما كان يفتح الباب أمام إمكانية تفادي الحرب أو إيقافها إذا ما استطاع الطرف الأقوى، أو كلا الطرفين، تحقيق الغاية دون العبور عبر الانتصار العسكري المكلف. حين يكون القتال هو الوضع الطبيعي في ذهنية وفي فقههم الجهاديين، يصبح السلام مجرد هدنة غير طبيعية لم يكن يُنظر إلى القتال كخير في ذاته، وإنما كان يُنظر إليه كشر لا بد منه، أي أنه من باب “القَدَر بِشَرِّه”. هذه المرّة نجد أنفسنا أمام محارب لا يعتبر انتصاره شرطاً لأي سلام لغاية حفظ النّفس أو لغاية سلامة الآخرين، بل يعتبر القتال غاية في ذاته، ولا حاجة إلى تبريره بأي أفق إنساني للسلام أو الأمن أو الأمان، سواء محليا أو عالميا. نحن بالأحرى- وهنا تكمن خطورة الموقف- أمام طرف يعتبر القتال غاية الغايات. وتحديدا، كما ورد في أدبيات الإخوان المسلمين (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا). علما بأن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة الأم التي أنجبت كافة تيارات الإسلام السياسي. ما يعني بصريح العبارة أن “الموت في سبيل الله” عند فصائل الإسلام السياسي ليس مجرّد وسيلة لغاية أخرى، بل هو غاية في ذاته (الموت أسمى أمانينا). وبالمناسبة نذكر كيف ردّد رئيس الحكومة المغربية عبدالإله بن كيران نفس الوعيد، وهو يستنفر الناس في غمرة حملته الانتخابية الأخيرة، عندما ظنّ بأن وزارة الداخلية لن تسمح له بالفوز في الانتخابات، وكان في ذلك الظن إثم كبير. بصريح العبارة، فإننا أمام طرف يتصور بأن حالة الاستنفار والجاهزية للقتال “في سبيل الله” هي الحالة الطبيعية للإنسان المسلم. لذلك لا غرابة أن تكون مفاهيمه السياسية عسكرية بالأساس: اللواء، الجماعة، البنيان، البيعة، الاحتراب، التدافع، الغزوات، الولاء، الشهادة، الجهاد، التمكين، إلخ. والسؤال، إذا كانت المفاوضات والتسويات هي أفق الحل السياسي أمام أي حرب كيفما كانت شدتها، ومهما بلغت ضراوتها، فكيف يمكن تحقيق التفاوض مع طرف يعتبر القتال هو الحالة الطبيعية؟ وكما كان يقول عبدالسلام فرج فإن “كتب عليكم القتال” تُفهم قياسا على “كتب عليكم الصيام”، كلاهما فرض عين على المسلم. حين يكون القتال هو الوضع “الطبيعي” يصبح السلام مجرد هدنة “غير طبيعية”. ما يعني أن الأفق السياسي الوحيد داخل الحرب العالمية على الإرهاب المعولم هو الهدنة غير المعلنة. بهذا النحو، لا يضع الإرهاب على العالم تحديا أمنيا وحسب، وإنما يضع عليه تحديا سياسيا كذلك: هل العالم مستعد لهدنة غير معلنة تضمن غض الطرف عن تصريف الأيديولوجيا القتالية داخل بعض المناطق مقابل الأمن في بقية العالم، ولو إلى حين موعد آخر من مواعيد التمكين؟ لقد قدمت تركيا بنفسها نموذجا للهدنة غير المعلنة مع تنظيم داعش قبل أن توشك الهدنة على الانهيار، دون أن تنهار بشكل نهائي. بل حتى إسرائيل نفسها قدمت نموذجا لهدنة غير معلنة مع تنظيم داعش قبل أن توشك الهدنة على الانهيار، من غير أن يكتمل انهيارها. ولعل رغبة الدول الغربية في التخلص من نظام بشار الأسد قد ضمنت لتنظيم داعش في بداية الأزمة نوعا من الهدنة غير المعلنة قبل أن تتداعى الهدنة إلى الانهيار شبه الكامل. بالجملة فإنّ رهان تنظيم داعش قد يكون هو العودة إلى هدنة غير معلنة طويلة الأمد، أو لعلها تتجدد تبعا للضرورات التي تبيح المحظورات.. فهل سيتحقق ذلك؟ السلطات الحاكمة لا تقيس وسطية الخطاب الديني بمعيار واحد: الموقف من الحاكم. وهو معيار شكلي ومخادع في المقابل، يعاني المعسكر الذي يقاتل ضدّ الإرهاب من ثلاث ثغرات أساسية: أولا، لعل المجتمعات الإسلامية، والتي تمثل البيئة الحاضنة للإرهاب المعولم، وهي المعنية بالأساس بمحاربة الإرهاب، غير جاهزة كما ينبغي، أو ليس بعد. وتتمثل عدم الجاهزية في ثلاثة مستويات، وهي غياب خطاب ديني إصلاحي واضح وقادر على إزاحة خطاب الكراهية والتهييج، ضعف دولة الحق والقانون باعتبارها الأداة الأساسية لكسب الحرب على الفتنة والتطرّف، ثم يأتي ضعف مستوى الحريات الفردية وتردي قدرات المجتمع المدني. ثانيا، غلبة الطابع الانفعالي الغوغائي على الخطاب الديني السائد، مع تهييج متواصل للانفعالات السلبية والغرائز البدائية، من قبيل الغيرة والحمية والنصرة والغضب، وذلك على حساب تنمية القدرة على إعمال العقل. في المقابل، لا تقيس السلطات الحاكمة وسطية الخطاب الديني سوى بمعيار واحد: الموقف من الحاكم. وهو معيار شكلي ومخادع كما تؤكد معظم التجارب. ثالثا، لا شكّ أنّ قوانين المجتمعات الأوروبية في مسائل الأمن والجريمة والعقاب ونحو ذلك، تتناسب مع مستوى تطور ثقافة الحرية والمسؤولية والالتزام داخل المجتمعات الحديثة. ذلك التطور هو المنحى العام لروح الحداثة السياسية في آخر المطاف. غير أن هذه الرّوح لا تتناغم مع بعض الخطابات الدينية لدينا والتي لا تزال تمجد قيم التقية والبراء والتستر والتحجّب والتمكين والكتمان. هنا بالذّات يكمن سوء التفاهم الثقافي الكبير بين قوانين الغرب ومفاهيم عدد من المسلمين الذين يعيشون داخل المجتمعات الغربية، ما يجعل من إصلاح الإسلام داخل المجتمعات الغربية الحديثة أولوية قصوى. إن عدم استحضار هذه الثغرات الثلاث ليعني بأن الحرب على الإرهاب ستكون حربا طويلة. سراب/12
مشاركة :