«اسمعي» رحلة بصرية وقصة حب عاطفية

  • 1/25/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

«والأذن تعشق قبل العين أحيانا» هي العبارة التي في إمكانها أن توجز لنا قصّة فيلم «اسمعي» (listen) لفيليب عرقتنجي. يتناول الفيلم الذي سيبصر النور في صالات السينما اللبنانية في التاسع من شهر فبراير (شباط) المقبل، قصّة حبّ، يميّزها عن غيرها من القصص الشبيهة لها، هو تقييم أهمية الصوت والإصغاء في هذا النوع من العلاقات. هذا الموضوع الذي يعدّ جديدا من نوعه في عالم السينما العربية وبالكاد تمّ التطرّق إليه في أعمال أجنبية، يستند إلى الحبّ كأحد أقوى أشكال المقاومة والبقاء على قيد الحياة. فيدخلنا في رحلة بصريّة حول عالم الصوت وأهميّة الاستماع، إذ يتناول قصة عاطفية مؤثرة عن مهندِس صوت شاب، تتعرض حبيبته لحادث يوقعها في غيبوبة عميقة، فيواظب على إرسال تسجيلات إليها تتضمن أصواتًا من صميم الحياة، تعبّر عن الفرح والتفاؤل، على أمل أن تدفعها إلى الاستيقاظ من غيبوبتها، لكنّ الانتظار الطويل وبلا أفقٍ يجعل القدرة على الوفاء عرضة لتجربة الإغراء. «استنادا إلى هذا المفهوم العلمي بنيت قصّة حب تدور بين بطلي الفيلم (جود ورنا)، فلطالما رغبت في تقديم عمل سينمائي يتناول أهمية الصوت في زمن الصورة، واكتملت الفكرة عندما وضّبتها في قالب عاطفي بامتياز يحمل في طيّاته رسائل اجتماعية عدّة». يوضح مخرج الفيلم فيليب عرقتنجي لـ«الشرق الأوسط»، الذي اختار بطل الفيلم (هادي بو عيّاش) عبر موقع «فيسبوك» الإلكتروني: «في الواقع لمحت صورته على هذا الموقع وبعد عمليّة كاستينغ دقيقة لعدة أشخاص غيره، اخترته ليكون بطل القصّة وقد نجح في أداء دوره إلى أبعد حدود». ففي إطار صورة ملوّنة جميلة يتجوّل المشاهد في مناطق لبنانية عدّة، فقد تمسّك المخرج فيليب عرقتنجي كما في مختلف أفلامه (تحت القصف والبوسطة والميراث) في إعطاء لبنان مساحة كبيرة من مجريات فيلمه. وفي «اسمعي» نشاهد بيروت في تابلوهات خلّابة تعرّفنا إلى طبيعتها في الليل كما في الفجر والنهار، وإلى شوارعها وأبنيتها التراثية والشعبية، وكذلك يأخذنا إلى لبنان الجبل وأزقّة القرية والشاطئ والمناظر الطبيعية ضمن توليفة إخراجية بعيدة كلّ البعد عن العاديّة وعن المشاهد المستهلكة والمعروفة بعبارة «شوهد سابقا» (Deja vu). ولا يقتصر هذا العمل الذي شارك في مهرجان دبي السينمائي مؤخرا، على تأثير الصوت علينا، فيلقي الضوء أيضا على قيم اجتماعية تهمّنا كالوفاء والخيانة وعلاقة الأهل بأولادهم، كما يعطينا فكرة واضحة عن رأي المرأة بالرجل والعكس صحيح، من خلال مشاهد مشبّعة بالطبيعية والحوارات السريعة والصريحة عبر نصّ يحمل في حبكته البساطة والعمق في الوقت نفسه وضعه كل من المخرج ومنى كرايم في خدمة العمل. أما الجرأة التي تتخلل بعض المشاهد والتي سمحت لمقصّ الرقابة في تمريرها شرط ألا تتمّ مشاهدته سوى من هم في عمر الـ18 عاما وما فوق، فقد لاحظناها في مشاهد حميمة قدّمتاها بطلتا الفيلم (ربى زعرور ويارا بو نصّار)، وقد أوضحت هذه الأخيرة خلال العرض السينمائي الخاص بأهل الصحافة، بأنها وافقت على القيام بهذه المشاهد لأنها تكمل القصّة وأنه يجب عدم الاختباء وراء إصبعنا بعد اليوم في أعمالنا السينمائية اللبنانية. ويعلّق المخرج: «لقد طلبت مني الجهة المعنية في هذا الموضوع أن أحذف بعض تلك المشاهد، كي يسمحوا لي بعرضه لمن هم في سن الخامسة عشرة وما فوق، إلا أنني رفضت من باب رغبتي في عدم مسّ أي تفصيل منه قد يفقده خصوصيّته». نفحة من السلم والهدوء إضافة إلى فلسفة الصمت يزوّدك بها الفيلم خلال مشاهدتك له، ويبقى تأثيره جاري المفعول على حواسّك حتى بعيد مغادرتك صالة عرضه. «برأيي أن الصوت هو أهم من الصورة فحتى لو كانت هذه الأخيرة غير واضحة فإن الصوت يساهم في بلورتها» يقول عرقتنجي في سياق حديثه، ويتابع: «لقد حاولت تمرير أصوات مختلفة غير تلك التي رغبت في تسليط الضوء عليها بشكل نافر، فبعضها يكون تحصيل حاصل لموقف معيّن يرافقنا دون أن نتنبّه إليه. من هنا ولدت رغبتي في إعطاء الصوت هذا الحيّز، فهناك أحاسيس كثيرة تولد فينا وأحيانا تجتاحنا من خلال تأثير الصوت علينا. فصحيح أن حاسة الشمّ تأتي في مقدّمة الحواس التي تترك أثرها علينا، إلا أن الصوت يليها مباشرة ومن بعدها تأتي حاسة البصر والذوق». وأشار فيليب عرقتنجي إلى أن من شأن هذا الفيلم أن يوصله إلى العالمية، قائلا: «ليس من الضروري عندما نفكّر في صناعة فيلم سينمائي عربي أو لبناني، أن نتناول فيه فقط الحروب والأحداث الأمنية والأزمات السياسية وعمليات الإرهاب لتمثّلنا، إذ يمكننا أن نصنع أفلاما سينمائية حقيقية، فيها من الفن والدقّة في التنفيذ ما يكفي ليوصلها إلى المستوى العالمي». يغرق المشاهد طيلة مدة عرض الفيلم (ساعة و39 دقيقة) في طبقات صوتية متنوّعة، تعرّفنا على أهمية جزئياته بتركيبته المعقّدة، فيخاطبنا حينا باللغة المحكية وحينا آخر بلغات من نوع آخر كصوت الأمواج وزقزقة العصافير وحفيف أوراق الشجر وصخب السهر وهدوء الصباح، وصولا إلى صوت أنفاسنا التي ننساها في ظلّ انشغالاتنا الكثيرة، والتي تعبّر مرات كثيرة عن فرحنا وحزننا أو عن أي حالة نفسية أخرى نمرّ بها. ولا ينسى مخرج الفيلم أن يعرّج على إمكانات الصوت في غياب الصورة، وذلك في مشهد يحمل فيه بطل القصة ميكروفونا ذا حساسية عالية يسمح له بسماع نفس حبيبته ألقابعة في غيبوبة طويلة، وثرثرات ممرّضتها التي تكشف له بأن محاولاته أصبحت في مهبّ الريح. رغبة فيليب عرقتنجي في إعطاء الصوت حيّزا لا يستهان به من أعماله السينمائية، قابلها حسن اختياره لوجوه جديدة في عالم التمثيل لم يطلها بعد الظهور المتكرر أو الاستهلاكي. «أردتها وجوها جديدة لعالم جديد نتطرّق إليه لأول مرة في صناعتنا السينمائية». هذا الأمر حققّه بالفعل من خلال أبطال الفيلم الثلاثة (ربى زعرور ويارا بو نصار وهادي بو عيّاش)، إضافة إلى وجوه أخرى معروفة لكن ليس في عالم التمثيل أمثال المذيعة التلفزيونية لمى لاوند والفنانة رنين الشّعار التي أدت أغنية رقيقة بصوتها العذب (بغيابك يا حبيبي لا صوت ولا صدى)، واختصاصي الموضة بشارة عطاالله. كما عمل على تثبيت خطوته هذه من خلال لجوئه إلى وجوه تمثيلية عريقة كجوزف بو نصار ورفيق علي أحمد فجسّد الأول دور والد البطلة، والثاني شاهدا حيّا عن تجربة عاشها في عالم الغيبوبة، مما زوّد الفيلم بالعراقة والحداثة بعد أن كمّلهما أداء جيلين مختلفين، فساد العمل صبغة فنيّة محترفة لا تشبه غيرها من أفلامنا اللبنانية.

مشاركة :