النسخة: الورقية - دولي دفع ضم روسيا شبه جزيرة القرم كثيرين لاستدعاء حقبة الحرب الباردة ما بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأميركية. وهذا وهم ساذج فرزته قراءة سياسية متعجلة ومنفصلة عن العوالق المعرفية والتاريخية لتلك الأزمة الكبيرة. فوفق الأدبيات الماركسية الأرثوذوكسية فإن احتمالات اندلاع مواجهة كبرى بين روسيا والغرب كالتي كانت قائمة إبان تلك الحقبة تكاد تكون معدومة. فإذا كان العنصر الاقتصادي العامل الحاسم في تشكيل الأيديولوجيا والثقافة والتاريخ وفقاً لتلك الصيغة الماركسية الدوغمائية، فإن الصراع الإيديولوجي بين نموذجين رأسماليين كالنموذج الغربي الراسخ والنموذج الروسي الذي بدأ مشوار الخصخصة والانفتاح بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يفتقد الأسس النظرية والعلمية التي كانت قائمة إبان الحرب الباردة. بل على العكس، فإن الصراع القائم الآن يُفترض أن يعكس أزمة الهوية القومية الروسية/ الأوكرانية المشتركة في مواجهة النموذج الأممي بطبعتيه الشيوعية والليبرالية. فقد خضع الجزء الأكبر من أوكرانيا منذ مطلع القرن التاسع عشر للإمبراطورية الروسية، وعلى رغم أن مناخ الفوضى والحروب والثورات الذي أنتجته مع بداية القرن العشرين أحداث كبرى عدة كالحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية والحرب الأهلية الروسية، دفع أوكرانيا باتجاه القيام بمحاولات عدة للاستقلال عن النموذج السوفياتي، إلا أن تلك المحاولات لم تحل دون أن تكون أوكرانيا إحدى الدول المؤسسة للاتحاد السوفياتي بحلول 1922. ومن هنا بدأت أزمة تآكل الهوية القومية الروسية التي كانت عنصراً أساسياً في تماسك الإمبراطورية الروسية القديمة تنعكس بخاصة على أوكرانيا، فانضمامها إلى روسيا القيصرية أدى إلى نشأة رابطة ثقافية وحضارية بين البلدين ولكن تأسيس الاتحاد السوفياتي انطلاقاً من أيديولوجيا أممية كليانية قوَّض التراث القومي الروسي ومعه تلك الرابطة الثقافية بين روسيا وأوكرانيا بفعل انحرافات تلك الايديولوجيا الأممية التي هدمت التراث القومي المشترك بين البلدين. فوفق ما أشار المؤرخ السياسي الفرنسي جان توشار في مؤلفه الموسوعي «تاريخ الأفكار السياسية» فإنه يصعب جداً الفصل ما بين تاريخ التطور الأيديولوجي للماركسية اللينينية وبين التاريخ السياسي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، ولعل إحدى الإشارات المهمة لتوشار حديثه عن عدول لينين عن النهج الأممي المتحرر المتمثل في مفهوم الثورة الدائمة واستبداله بما أطلق عليه السياسة الاقتصادية الجديدة بهدف تمكين الثورة في الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وهو ما دفع خلفه ستالين إلى تنظيم الأجهزة الإدارية والاقتصادية في البلدان التي استقرت فيها الشيوعية معززاً بذلك سلطة الدولة المركزية وهو النهج الذي عارضه تروتسكي لأن تلك الأممية المُقيدة عنت تكوين جهاز دولة بيروقراطي عسكري، ومن ثم هجر الديموقراطية الحقيقية للسوفياتيات الشعبية، وهو نهج فرض على الإتحاد السوفياتي السابق استخدام الامبريالية العسكرية من أجل الدفاع عن نفسه ومن ثم تدجين الأحزاب الشيوعية الأجنبية ليجعل منها أدوات إستراتيجية في خدمة مخططه الأممي المُقيد. ودفعت أوكرانيا الفاتورة الدموية لهذا التحول التاريخي في مسار الماركسية اللينينية. فتنظيم الأجهزة الإدارية والاقتصادية في أوكرانيا دفع ستالين إلى فرض نظام العمل الإرهابي الجماعي على الفلاحين من طريق القوات النظامية والشرطة السرية، ما أدى إلى حدوث مجاعة هولودومور بين عامي 1932 و1933 والتي أودت بحياة أكثر من 3 ملايين أوكراني بعدما صادرت السلطات مخزون الفلاحين بالقوة. وكانت تلك المجاعة فرصة سانحة للقضاء على ثقافة الفلاحين في أوكرانيا وذلك ضمن سلسلة طويلة من محاولات ستالين تدمير الهوية الثقافية والوطنية الأوكرانية خلال عقد الثلاثينات من القرن المنصرم. وإضافة إلى تلك المجاعة فإن عهد إرهاب الدولة الستاليني المنظم أباد ذخيرة أوكرانيا من الفنانين والمثقفين والكتاب الذين تخلص منهم ستالين بمساعدة الحزب الشيوعي الأوكراني بعدما جرده من هويته الوطنية بموجب سياسات التدجين السوفياتية للأحزاب الشيوعية الأجنبية. ومن ثم فإن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم بعد استفتاء شعبي أكد غلبة الطابع الثقافي الروسي على سكان هذا الجزء من أوكرانيا، يعني من الناحيتين المنطقية والعلمية أننا إزاء مسار معاكس لمسار الستالينية والحرب الباردة، لأننا ببساطة بصدد حالة صحوة للهوية القومية الروسية في مواجهة الأممية الليبرالية المعولمة. وتلك الحالة يجب أن تكون خارج السياق التقليدي للحرب الباردة، إذ يفترض أن تقترن بعملية تأسيس دولة قومية بالمعنى الحداثي الذي تلتحم فيه الثقافة بالسياسة في نسيج واحد، وذلك على أنقاض النهج الأممي السوفياتي الذي فصل الثقافة عن السياسة في علاقته بأوكرانيا، فكان ذلك إيذاناً بانهيار النموذج الشيوعي ككل. إلا أن هذا الأمر يتوقف في النهاية على أبعاد الموقف الروسي نفسه، فنحن هنا أمام احتمالين. الأول هو أن يكون فلاديمير بوتين مدركاً تلك التعقيدات والمنعرجات التي حكمت علاقة الاتحاد السوفياتي السابق بأوكرانيا فأدت إلى انفصالها عنه العام 1991، ومن ثم فسيتفادى بفعل ذلك هذا المنطق الشيوعي الزائف الذي يغلف أزمته الحالية مع الغرب ويسير باتجاه استعادة الهوية القومية الروسية/ الأوكرانية المشتركة من خلال إدماجه إقليم القرم في روسيا. أما الاحتمال الثاني فهو أن يكون بوتين تعاطى منذ البداية ببراغماتية وديماغوعية مع عملية عزل رئيس فاسد مثل فيكتور يانوكوفيتش من السلطة موظفاً أوهام الحرب الباردة في صناعة صورته كفاتح سوفياتي يخوض من جديد غمار الصراع التاريخي والأيديولوجي وفي تأطير دفاعه عن حاكم أوكرانيا المعزول بانتفاضة شعبية بإطار رسالي وتبشيري يتسق مع شمولية النهج الشيوعي، فيكون سدَّد بذلك طعنة جديدة للهوية القومية الروسية. * كاتب مصري
مشاركة :