بينالي الأطفال.. أحلام كبيرة بالسلام والعدل

  • 1/27/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أمل سرور أجمل الأطفال هم الذين لم يولدوا بعد، وأجمل الورود هي تلك التي لم تتفتح بعد، هكذا أنطلق من كلمات الشاعر الراحل ناظم حكمت، لأعترف له بأن تلك البراعم الصغيرة التي طالما حلم بميلادها قد وُلدت، ورسمت طريقها إلى مستقبل واعد، وأن زهوره التي طالما اشتاق إلى رحيقها تفتحت لتنشر عبيرها عبر عالم لاتزال لديه القدرة على إدهاشنا. التقيتهم وجهاً لوجه، أنصتُّ إلى أحلامهم، استنشقت رائحة مستقبل خطته أيديهم الصغيرة على جدران متحف الفنون بالإمارة الباسمة، في محاولة لقراءة رسائلهم التي أرسلوها إلينا عبر مشاركتهم في الدورة الخامسة لبينالي الشارقة، الذي رفع شعاراً يستحق بجدارة الوقوف أمامه طويلاً: عالم كبير بحدود خيالك. ما إن تطأ قدماك أرض متحف الشارقة للفنون حتى تدخل صدرك رائحة البراءة التي تفوح في الأجواء، تبوح بأسرارها إلى تلك الجدران التي تزينت بلوحات رسمتها أيديهم الصغيرة. لا محالة، تجد نفسك تتمنى أن تعود إلى الوراء سنوات، تستعيد فيها طفولتك لتعيش في ظل براءتك التي اقتنص منها الزمن الكثير. أكثر من 785 عملاًفني اًمن مختلف دول العالم شقت الطرق والممرات لتحط بها على أرض الإمارة الباسمة، وليقع الاختيار على 376 عملاً فنياً مميزاً. لوحات تجذب حواسك فتجد نفسك مشدوهاً إليها، تقترب منها فتشعر بأنفاس بريئة تداعب وجنتيك، ربما تسمع آهات، أو تخترق أذنيك كلمة دعاء، ربما تضحك حد البكاء، أو تبكي حد الضحك. مشاعر مختلطة داهمتني طوال جولتي بين لوحات الصغار التي صنفها البينالي في دورته الخامسة إلى 3 فئات، بين البيئة، والتصاميم المعمارية، والفنتازيا والواقع. صوت ليلى صبيح، مديرة الفن في مراكز الأطفال، التي رافقتنا في جولتنا بين لوحات المشاركين في البينالي، كان كفيلاً أن يجعلني أفيق من حالة تأملي لأقرأ معها بعضاً من تفاصيل أحلام الصغار في محاولة لتفسيرها. طلبت من مرافقتي أن تكون نقطة انطلاقنا من عند لوحات أطفال مخيم الزعتري للاجئين السوريين في المملكة الأردنية، حيث وصل إليهم البينالي ليحمل رسائلهم إلينا، وبعد الفرز والتقييم تأهلت بالفعل 6 أعمال جماعية نفذها 72 طفلاً. صمتت ليلى صبيح ويبدو أنها شعرت برغبتي في تأمل تلك اللوحة التي رسمتها صاحبة ال 6 أعوام. لم تملك إلا أن تعبر عن ذلك الحديث وتلك المناجاة التي تربط بينها وبين الله سبحانه وتعالى، رسمت الصغيرة، صغيرةً مثلها ترفع يديها إلى ربها، وعيناها مليئتان بالدموع لتكتب أناملها التي مازالت تحبو في عالمنا بخط بريء كلمة ياب ر أي يا رب. هكذا سمعت دعواتها ورأيت دموعها ولم أستطع أن أجيب عن تساؤلاتها التي تدين العالم أجمع. أحلام بريئة لوحة الأمل والتفاؤل تنجح بجدارة في أن تخطف قلبك قبل عينيك، لكي تتأمل الصغيرتين اللتين رسمتا أحلامهما في عمل جماعي يقول ببساطة: أتمنى رسامة وعلى الجانب الآخر من اللوحة: أتمنى محامية. تلك هي الحياة استطاع الصغار أن يرسموا معاناتهم ويفجروا أحلامهم عبر خطوط وألوان تتحدى اللقب الذي التصق بهم لاجئون، افترشوا الحاضر ليلونوا المستقبل بأحلامهم. خيالهم واسع لا يوصف، هكذا قطع صوت مرافقتي حالة الصمت التي سادت، لتكمل حديثها عن صور أطفال مخيم الزعتري، قائلة: معظم المشاركين وُلدوا في المخيم، ولا يعرفون سوى البيئة التي يعيشون فيها، وعندما طلب منهم فريق عمل البينالي رسم بيئة البحار، كان زادهم الخيال فجاءت الأعمال كما ترينها أمامك. صمتت صبيح لأرقب عالم البحار الذي داعب مخيلة الصغار فأجده يفوق الخيال، لا يمكن لهؤلاء أن يرسموا تلك اللوحات وهم لم يروا ذلك العالم. زرقة المياه.. الأمواج.. المخلوقات البحرية الهاجعة. الرابط اللافت للنظر هو أن كل ما رسمته مخيلة الصغار في بيئة البحار كان توحش كائناتها، وكأنهم لا يرون في الآخر سوى توحشه الكاسر على سطح الأرض أو تحت البحار. غرائب المالديف أترك لوحات اللاجئين الصغار لأنتقل إلى عوالم أخرى تحمل فكرة رسم عوالم البحار وما تحويه من غرائب، فها هم صغار دار زايد للأيتام في جزر المالديف الذين زارهم فريق البينالي ليحمل رسائلهم من البحار، تبدو رسوماتهم أكثر تعبيراً عن بيئتهم البحرية، وتظهر جلياً ألوان زرقة البحر بتدرجاتها. ويبدو أن عالم البحار شد كثيراً من الأطفال الذين دارت أحلامهم حوله، فها هو فريق عمل مدرسة الشارقة الدولية يصمم 3D لهذا العالم، وها هي مشاركات مراكز الأطفال في الشارقة من وادي الحلو ودبا الحصن وخورفكان تنير جدران المتحف ورابطها المشترك عالم البحار. مدينة المساواة مرافقتنا استطاعت بذكاء شديد أن تغير مجرى جولتنا من البحار إلى البيئة بشكل عام، فقبل أن نغادر إلى بينالي التصاميم المعمارية، لم تنس أن توقفنا أمام بعض من اللوحات أظن أنها ستُحفر في أذهان الكثيرين. قطرة من الماء تهم عنوان اللوحة التي رسمتها أنامل صغيرتين من الأردن تحث فيها البشر ببراعة على صون نقطة المياه التي تهدر هباء. ومنها إلى تلك الغرفة التي خُصصت للأعمال المشاركة من الهند التي وصلت إلى 130 عملاً تتضمن مناجاة البشر للحفاظ على اللون الأخضر في الحياة. قبل أن أغادر لأعود أدراجي إلى المعمار، استوقفتني لوحة حملت عنوان مدينة المساواة للطفلة نهى (8 سنوات) التي نجحت بجدارة في أن تتجاوز عمرها وتطلق العنان لخيالها الذي رسم ميزانين، واحداً يحمل التلوث والآخر يحمل النقاء والاخضرار، بينما ينحدر ميزان الصفاء إلى القاع، يعلو عليه ميزان السواد لتعلن نهى أننا نعيش في زمن التلوث. مدن من الخيال من البيئة بجميع أشكالها وأنواعها إلى التصاميم المعمارية بألوانها الصارخة وتركيباتها المعقدة أنتقل، فاجأني إبداع الصغار، بل فاق تخيلي، حين تتحول كتل الأسمنت ومواد البناء الصلبة الصلدة إلى أعمال فنية مبدعة إلى حد يفوق الوصف، فنحن نقف عند خيال خصب، وواعٍ ومدرك، بل يتجاوز عمره بمراحل. تتحدث ليلى صبيح، عن المواد المختلفة التي استخدمها الصغار التي لم تقتصر على الألوان فقط، بل شملت الكرتون والبلاستيك والنحاس والقماش أيضاً. تصميم الطفلة لمياء الزرعوني من مراكز أطفال الشارقة، استوقفنا خصوصاً أنها صنعت نموذجاً لكرة أرضية جمعت فوقها كل أطياف الأطفال من مختلف الجنسيات، في رسالة منها تقول احلموا بعالم سعيد. دراجة الفضاء تتعدد التصميمات لتعبر عن خيال الصغار، فها هو مخلوق بحري يحمل مدينة متحركة تعيش فوق المياه، وها هي مدن صديقة للبيئة صنعها الصغار من فكرة إعادة التدوير، واستعانوا بكل ما هو قديم في منازلهم وركبوه ولونوه بدهانات ممتعة تعبيراً عن رغباتهم في العيش في مدن صديقة للبيئة. وإلى الفضاء سبحوا بعد أن جابوا البحار، إذ صمموا دراجة تحمل أجسادهم الصغيرة وعقولهم المبدعة إلى الفضاء في محاولة لتحدي الزمن واكتشاف المجهول. جنون الفانتازيا لايزال الإبداع مستمراً، ولكنه يصل إلى الجنون لندخل معه عالم اللا معقول. براعمنا الصغيرة تسخر وتتخيل وتعبر مدى العقل وتتجاوز الكثير لتصل إلى عالم الفانتازيا الذي خصص له البينالي قسماً خاصاً به. حين تقرر أن تتجول فيه ستضبط نفسك واقعاً في الضحك والشجن والهدوء وبالتأكيد التأمل. أدخل إليه فتفاجئني أعمال أطفال وادي الحلو الذين رسموا بورتريهات لوجوه تخيلوا سماتها وملامحها، وجوه تدعو للبكاء في آنٍ وأخرى تدفعك إلى الضحك. قبل أن نختم جولتنا بين أحلام وطموحات الصغار، استوقفنا ذلك العمل الذي صممته طفلتان تعيشان في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ صممتا منزلاً على شكل كعكة كبيرة وكتبتا عليها إنها العالم، أما عن مقادير الكعكة فكانت الحب والود، وطريقة عملها كانت السلام. هكذا لخص بينالي الشارقة في دورته الخامسة أحلام الصغار التي أظهرت بوضوح أننا بصدد أجيال مبدعة ستحكم عالمنا المقبل عن قريب، حكماً لن يخلو من السلام.

مشاركة :