خلال القرون الوسطى لعبت الكنيسة النصرانية لعبتها التاريخية على السُّذج من النصارى الذين تدافعوا على عتباتها طالبِين من باباواتها أن يبيعوهم الجنة بصكوك تكون حجة لهم لدخولها بعد أن يُغفَر لهم ما قد سلف من ذنوبهم التي -بدعوى باباواتهم- تحمَّلها عنهم المسيح عليه السلام، يوم أن صُلب ذات شُبهة عرَّاها القرآن وأبان حقيقتها، وتكون أيضًا فسحة لهم لممارسة رغباتهم وشهواتهم في الدنيا دون رادع ديني أو أخلاقي. بمعنى إن الباباوات في العرف الكنسي يملكون الجنة وبالتالي يملكون صلاحية إدخال من يشاءون فيها أو حرمانه منها، وهذا تأتَّى نتيجة جهل النصارى بمبادئ دينهم التي حُرِّفت نصوصه عندما اشترى سادتهم بها ثمنًا قليلًا. وتتوالى القرون وتتابع الحقب وتظل جينة الخداع متغلغلة في العقلية النصرانية حتى مع ثورة النهضة الحضارية التي شهدها العالم، وكان الغرب المسيحي هو باعثها خلال القرون المتأخرة. واليوم، وإن تخلى الباباوات عن صكوك غفرانهم بحق النصارى فإن (الساسة) في الغرب المسيحي قد حلُّوا محل الباباوات وأمسكوا بزمام المنْحِ والمنْعِ وتوزيعِ التُّهَمِ والبراءةِ، لكن ليس بحق مواطنيهم من النصارى هذه المرة؛ وإنما بحق (العالم الإسلامي) بهيئاته ومؤسساته الرسمية والخيرية والأهلية. ما دعاني للحديث عن صكوك الغفران والاتهام والبراءة ما قرأته في مجلة (الإغاثة- العدد 62) التي تصدر عن رابطة العالم الإسلامي، وتُعنى –بحسب المجلة نفسها- بـ"شؤون الإغاثة واللاجئين والعمل الخيري والإنساني وقضايا الفقر والمرض والجهل" ويرأس تحريرها زميلنا الكاتب بهذه الصحيفة الأستاذ الدكتور محمد خضر عريف، ذلك أنها ذكرت أن هيئة الإغاثة جددت عضويتها في منظمة (إكفأ) بسويسرا "بعد أن أصدر مجلس الأمن الدولي قرارًا بإزالة اسمها من قائمة المنظمات الراعية للإرهاب". نعلم جميعًا ما حل بالعالم الإسلامي بعد أحداث (11 سبتمبر) من حصار عسكري أمريكي نتج عنه احتلال أفغانستان والعراق، وما عانته مؤسساته بمختلف مسمياتها وخاصة الخيرية منها من تُهم بممارسة أو تغذية الإرهاب بحسب المنظور الأمريكي. عَقد من الزمان مر على العالم الإسلامي وهو يتجرع الغصص تلو الغصص، وتتوزع عليه التُّهم، ويُلقى عليه باللائمة، حتى بلغتِ القلوب الحناجر وظُن بالإسلام الظنون، وأُغلقت فيه مؤسسات خيرية لم يكن لها صلة بالإرهاب، ذنبها الوحيد أنها تنتمي للعالم الإسلامي. وبعد أن أفاق المارد الأمريكي من حالة الهيجان التي جعلته يُلقي التهم جزافًا ويوزعها على هواه، ها هو يثوب إلى رشده ويراجع قراراته فيمنح بعض المؤسسات الإسلامية (صكوك براءة) من ممارسة أو تغذية الإرهاب بعد عشر من السنين عجاف. ممارسة العمل الخيري عمل مشروع تقره الأديان والأعراف وتمليه الضمائر الحية، لكنه -وفق المنظور الأمريكي المتطرف- يُعد واجبًا إنسانيًّا متى قامت به حملات التبشير النصرانية، ويُعد تغذية للإرهاب متى قامت به المؤسسات الخيرية الإسلامية. النظرة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي ومن ينتمي إليه لا يمكن أن تتصف بالعدالة ما دام الإسلام طرفًا فيها؛ فمن ينتمي للعمل الخيري فذاك مغذٍ للإرهاب، ومن ينشد العزة والرفعة فذاك متطرف. هذه الأحكام الجائرة أتت من الهوان الذي تعيشه الأمة الإسلامية، نتيجةَ عدم امتلاكها أدوات المعرفة، ونتيجةَ ضياع بوصلتها لسبب أو لآخر. وبعد.. فكنا نعتقد أن صكوك الغفران المقدَّمة للسذَّج من النصارى قد توارت، غير أنها عادت في نسخة جديدة ممثلة في شهادات البراءة الممنوحة للمسلمين أفرادًا ومؤسسات، بعد أن عصفت بهم لعنة الإرهاب ببصمته الغربية. * وقفة: نرحب في اللجنة الثقافية بمحافظة العرضيات التابعة لأدبي جدة بالشاعرين (محمد يعقوب وعلي الشريف) في الأمسية الشعرية التي تقيمها اللجنة هذا المساء بقصر المعالي. Mashr-26@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (52) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :