يمكن القول إن السينما المغربية اقتربت إلى حد ما في بعض الأفلام الجادة التي قدمتها سواء على مستوى الفيلم السينمائي الطويل أو الفيلم القصير من الارتكاز في بناء سيناريواتها على التحليل النفسي، بحيث بتنا نلاحظ كم أن سيناريو بعض هذه الأفلام السينمائية ينبني على شخصيات إنسانية غير مستقرة على المستوى النفسي. فهي إما تعيش انفصاماً لا تدري أسبابه ولا تعرف النتائج المترتبة عنه، وإما أنها تعيش فقط صراعاً نفسياً يعذبها بالفعل، لكنها رغم عذابها هذا، تظل قادرة على السيطرة عليه والتحكم في ضبط زمامه. ومن بين الأفلام السينمائية الطويلة التي نهجت هذا الطريق السينمائي الفني، يمكننا الحديث عن فيلم «الأوراق الميتة» للمخرج المغربي يونس الركاب الذي استطاع في فيلمه هذا أن يقدم للمشاهدين قصة محكمة البناء حول شخصية «زهرة» التي تعاني من اضطرابات نفسية عديدة ولّدت داخلها كرهاً عميقاً تجاه الرجال بحيث إنها وهي ترتبط في علاقة غرامية مع صحفي شاب أراد إجراء حوار معها حول طريقة عملها وكيفية تهييئها للحفل الراقص الذي يريد تقديمه المعهد الموسيقي الذي تعمل فيه، تقدم ما أن يغرم بها هذا الصحفي الشاب ويقضي وقته معها، على قتله دون أن تعي أنها قد فعلت ذلك، ودون أن تلتف الشكوك حولها في بداية الأمر. والأمر نفسه سنجده سيحصل مع زميلها في العمل، بحيث ستقوم أيضاً بقتله وهو ينام في فراشها بعد أن وقع في غرامها وربط معها قصة حب اعتقد هو تحديداً أنه سيكون ممتداً إلى ما لا نهاية. وفي موازاة ذلك، سنرى رجلاً مشوه الوجه غريب الأطوار، يظل يتابعها باستمرار ويراقب خطواتها بحرص كبير، خصوصاً عندما يعلم أنها قد أقامت علاقة معينة مع أحد الشباب. وهو ما سيجعل الشرطة تقوم بمراقبته بعد حدوث جريمتي القتل المشار إليهما، وسيجعل منه محط شكوك مستمرة. لنعلم في النهاية أن هذا الرجل لم يكن في واقع الحال سوى الطبيب النفسي الذي تتبع حالة «زهرة» حينما كانت تعالج عنده في المستشفى ودافع عنها حين وجدها قد تعرضت لحالة اغتصاب من لدن بعض الممرضين الذين كانوا يعملون في المستشفى الذي كانت تتعالج هي فيه، فلم يتورعوا عن تشويه وجهه وهو يفعل ذلك بعد أن أشبعوه ضرباً كاد يودي بحياته. وهو الذي سيقدم في الأخير شهادته أمام المحكمة، حين يتم توجيه تهمة القتل إلى زهرة بعد أن تم اكتشاف أنها هي القاتلة دون سواها. لقد عاشت «زهرة» حياة مضطربة. ورغم كونها تمارس الرقص الفني في شكل إبداعي رائع وتشرف على تهيئة الحفل الراقص للمعهد الذي تشتغل فيه، فإن هذا الأمر لم يحل بينها وبين التخلص من عقدة كراهية الرجال التي عانت كثيراً منها. لقد عانت «زهرة» من قسوة العم الذي دفع بها إلى مستشفى الأمراض العقلية ليأخذ كل ميراثها من أبيها، وهناك ستتعرض للاغتصاب في شكل بشع. وهو ما يتسبب لها بمعاناة شديدة القسوة، ستدفع بها بعد خروجها من المستشفى للانتقام من عدد من الرجال دون أن تعي ذلك. وفي النهاية، حين سيتم القبض عليها سيصار إلى مراعاة ظروفها النفسية، كما سيساعدها في ذلك طبيبها النفسي «الغازي» الذي سيقدم شهادته أمام المحكمة وسيقدم للقاضي الأوراق الرسمية التي تثبت صحة ما يقوله. يعتمد هذا الفيلم الذي اختار له المخرج عنوان «الأوراق الميتة» في إحالة إلى معاناة الشخصيات المتواجدة فيه وفي مقدمتها «زهرة»، بالتوازي مع الاعتماد على حكاية تلك الشخصية المريضة نفسياً، على السير في اتجاه الفيلم البوليسي الذي يحرص على لعبة التشويق وعلى إخفاء حقيقة المجرم طيلة زمن الفيلم، مع تقديم مجموعة من الإشارات التي قد توحي بأن القاتل غيره، لنكتشف في الأخير سره ونعلم من يكون. لقد سعى هذا الفيلم إلى سبر نفسية الشخصيات وانطلاقاً من هذا السبر الذي اعتمد على التحليل النفسي الفرويدي، صاغ قصة جمعت بين التشويق وبين الرعب على النمط الهتشكوكي، أو لنقل إن هذا الفيلم السينمائي قد جمع بين التحليل النفسي الفرويدي والتشويق البوليسي كما صاغته في رواياتها أغاتا كريستي. وهو أمر بقدر ما تمكن من منح الفيلم إطاراً ثقافياً متكاملاً، كان من الصعوبة بمكان أن يتحقق هذا الجمع في شكل جيد موفق. ونعتقد أن المخرج الركاب قد نجح في ذلك، رغم ما قد يؤخذ على الفيلم من هفوات على مستوى بناء الشخصيات، وهي على كل حال قليلة جداً، ولم تؤثر في نجاح الفيلم في تقديم قصة متكاملة ومحكمة. ولعل في إمكاننا أن نقول في اختصار إن هذا الفيلم السينمائي المغربي وهو يسعى إلى كل ذلك، قد وُفّق في كثير من محطات التنامي السردي فيه، وخاصة في أن ينجح في شد الانتباه في شكل كبير، لا سيما أن الممثلين وُفقوا بدورهم في تقمص شخصياتهم ونجحوا في تحقيق ما يسعى المخرج إليه. وفي مقدمة هؤلاء الممثلين، نجد كلاً من ربيع القاطي وسناء بحاج وحميد نجاح ونادية نيازي وحسناء المومني وربيع بنشهيلة ونبيل عاطف وياسمينة زكي.
مشاركة :