الفنان زهراب يغيب تاركا ورائه إرثا فنيا كبيرا راكمه على مدى 60 سنة لم يتوقف فيها عن استحضار مشاهده الذهبية حينا والفضية حينا آخر بألوان وأجواء الزهور المشرقية. العربميموزا العراوي [نُشرفي2017/02/17، العدد: 10546، ص(17)] حالة الغياب هي حالة “صقيع” متأصلة في حياتنا البشرية على هذه الأرض التي هي الأخرى ستغيب يوما، على مضض أو لحسن الحظ مع كل ما حملت أو حلمت بأن تحمله. قد تخطر على البال هذه الأفكار، التي ربما يجدها البعض سوداوية بعض الشيء، عندما نسمع بخبر وفاة أحد الأشخاص الذين لا تربطنا بهم علاقة وطيدة. يحدث كثيرا أن ترافق هذا الخبر، لا سيما عندما يتعلق الأمر بوفاة إحدى الشخصيات العامة كالفنانين أو الشعراء أو الأدباء، هذه الكلمات “توفي فلان بعد صراع طويل مع المرض”. هذا ما سمعناه مؤخرا عن الفنان التشكيلي الأرمني/اللبناني زهراب الذي توفي “بعد صراع طويل مع المرض”. وعُرف عن الفنان، رغم معايشته لألم الحرب اللبنانية وتأثره بالمجزرة الأرمنية، ميله الشديد إلى رسم الفرح والأمل والحب مهما اختلفت المواد الفنية التي استخدمها في تقديم لوحاته. كلما تعدد وصف سبب الوفاة بهذا الشكل التوضيحي/الغامض الذي رافق وفاة زهراب وغيره من المبدعين، كلما شعر المستمع أو قارئ الخبر بذاته تميل إلى التساؤل حول حقيقة هذا “المرض” المُشترك الذي فتك ويفتك بهذا أو ذاك المبدع؟ حتى مع الوضوح الكامل عن ماهية المرض الذي “صارع” وصرع في نهاية المطاف أحد المبدعين، يحيا التساؤل في مكان آخر وهو يطفو فوق الحدث الحزين كغيمة رمادية اللون تأبى “لؤما” أن تمطر لتريح وتستريح. ما هو الوجه الآخر لأي مرض يصارعه كل كائن مبدع لفترة طويلة، قدّ تمد جناحيها على مدى عمره، قبل أن يتمكن من القضاء عليه؟ هل هو محصور فقط بذاك المرض العضوي المُصنف علميا والذي يختلف من حالة إلى حالة؟ ما أشد الشبه ما بين هذا الصراع الفتاك وذاك الذي صوّره تحت عنوان “صراع يعقوب مع الملاك” عمالقة التشكيل الفني من أمثال رامبرندت، وألكسندر لويس لولوار وغوستاف دوريه. أروع تلك الأعمال هو ما قدمه الفنان أوجين ديلاكروا، إذ رفع مستوى هذا الصراع إلى أعلى مستويات الشعرية، فلا الملاك هو قاتل شرير ولا هو بريء من فعل القتل، كما أن ليس بمُصارعه على مستوى قوة الملاك ما فوق الطبيعية، ولا هو أقل من بطل أسطوري يعارك أزماته الوجودية في حرب شاملة مع ملاك جميل الجناحين وعطوف الملامح. ذُكر في أكثر من دراسة، أن الفنانين العمالقة الذين رسموا هذا اللقاء التراجيدي ما بين الملاك ويعقوب لم يستطيعوا الركون إلى معنى ما أرادوا التعبير عنه لحيرتهم حول ما إذا كان هذا اللقاء هو صراع في عتمة الليل مع كائن ما فوق طبيعي أو هو وصلة رقص شعرية بين فردين سعيدين بهذا اللقاء. تعددت الأسباب والموت واحد، تعدد الصراع وتكاثرت أنواع الأمراض وتبقى التراجيديا واحدة وموحدة، كما كانت عليه منذ بداية الإنسانية. غاب الفنان زهراب ومعه إرث فني كبير راكمه على مدى 60 سنة لم يتوقف فيها عن استحضار مشاهده الذهبية حينا والفضية حينا آخر. ألوان وأجواء الزهور المشرقية التي تحتضن بتلاتها وغصونها الدقيقة، تكسّر الضوء وعذوبة اللحظات التي لا تعرف إلا فرح تلاقي الأحباب. ما يهمنا الآن، وأمام خبر وفاة الفنان اللبناني الأرمني زهراب أنه لم يبق من “صراعه الطويل مع المرض” إلا وجوهه الباسمة، وتلك الشفاه والخدود الطريّة التي اصطبغت بوردية الورود التي لم تعرف يوما إلا الحب، حتى وهي في عزّ خسارتها له. ناقدة من لبنان ميموزا العراوي
مشاركة :