فنانة لبنانية ترسم تقاسيم غير مكتملة للوداع بقلم: ميموزا العراوي

  • 6/16/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

فنانة لبنانية ترسم تقاسيم غير مكتملة للوداع “تقاسيم غير مكتملة”، هو العنوان الذي أطلقته الفنانة اللبنانية غريتا نوفل على معرضها الجديد المُقام في صالة “جانين ربيز” اللبنانية، وبطريقتها الخاصة كرّمت الفنانة والدها الموسيقار وعازف العود جورج نوفل الذي تتلمذ على يد فريد غصن عازف العود الشهير، بمجموعة من اللوحات والأعمال التجهيزية التي تدور كلها حول منجز الوالد الموسيقار الذي غابت الكثير من أعماله تحت ستائر الإهمال الغليظة.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/06/16، العدد: 10665، ص(17)]نوتة الألوان السحرية بيروت – تكثر على الساحة البيروتية التشكيلية في الفترة الأخيرة، وربما عن طريق المُصادفة، معارض فنية تتناول علاقة الموسيقى بالفن التشكيلي بشكل مباشر وغير مباشر، نذكر على سبيل المثال معرض الفنان الموسيقار وليد نحاس والفنانة دورين خناميريان الزين والفنان شوقي شمعون. وهذا بالطبع ليس بجديد لا في لبنان ولا خارجه، لكن يمكن القول إن ما يميز “التجربة اللبنانية” الحالية هو هذا التناغم، لا بل الاتحاد ما بين تجريدية السماع والبصر في تجليات شكلية يُمكن تلقفها دون صعوبة، لأنها خارج منطق الإبهام والغموض الذي غالبا ما يرافق مثل هذا النوع من الأعمال الفنية. ولعل معرض الفنانة غريتا نوفل (مواليد بيروت عام 1955) المقام حاليا بصالة “جانين ربيز” البيروتية، والمعنون بـ”تقاسيم غير مكتملة”، هو أكثر ما يؤكد على هذا الإلحاح على استنطاق الموسيقى، ليس عبر ما تترك من أثر في نفس الفنان، بل في تجلياتها الشكلية التي تذكر كثيرا بالمدرسة البنائية/التركيبية الفنية التي ولدت في الخمسينات من القرن الماضي على أسس تعود إلى عالم الهندسة المعمارية. وبالتالي لن تترك أعمال الفنانة في نفس المشاهد، أي أصداء عاطفية على الرغم من عاطفية وحميمية الموضوع الذي تتناوله بأدق تفاصيله المُباشرة والإيحائية على حد السواء. ربما سيغادر زائر المعرض الصالة وذكرى بناء تجريدي في باله، وقد نبتت أغصانه كشجرة عنيدة لن يهزّ جذعها شيء ولا حتى مرور الزمن، ولا حتى وطأة الذكريات الجميلة منها والحزينة. فكرة المعرض انطلقت حين اكتشفت الفنانة صناديق مُغلقة وضع فيها والدها خمسين سنة من شغفه بالموسيقى الشرقية، وذلك من خلال تسجيلات صوتية لموسيقاه ولمدونات ورقية خط عليها اجتهاداته في التأليف الموسيقي. وذكرت الفنانة أنها أمام غزارة ما شاهدت وسمعت لم تعرف في البداية من أين تبدأ؟ هل بأرشفة أعماله قبل أن يتلفها الزمن والإهمال أم بسرد “حكاية” التسجيلات والأوراق المُتداخلة مع ذكرياتها الشخصية بطريقتها الخاصة كفنانة، أي عبر أعمال فنية تشهد على علاقتها الوطيدة بالوالد بالتوازي مع علاقة الفن التشكيلي بالموسيقى؟ تمّ البدء بالأمرين، أي بالاشتغال على الأعمال الفنية والتجهيزية من جهة وتجميع وترميم الأشرطة التسجيلية من جهة ثانية، ليسيرا في تواز يليق بعمق التجربة الشخصية/الفنية. وستباشر غريتا نوفل في المرحلة الثانية خلال الصيف القادم تحويل كل موسيقاه إلى تسجيلات رقمية، لتقيها من التلف ولتعيد إحياء حضورها على الساحة الفنية. ليس في المعرض أي قطعة موسيقى يُمكن سماعها، ولكن ثمة الكثير لرؤيته وللتفكر فيه وفي كنهه وفي كيفية بنيانه من ضمن نص بصري تمرست الفنانة طويلا بممارسته. نص تجاوز المُباشر وهو في الآن ذاته في صلب الخوض في غماره وفي أدواته الظاهرية كشرائط الكاسيتات وحوافظها البلاستيكية التي أعادت المُشاهد سريعا وعميقا إلى زمن الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت، أي إلى عزّ أيام الحرب اللبنانية، حينما كانت هذه “المستطيلات البلاستيكية” عبارة عن قوارب نجاة افتراضية تأخذ بخيال المُستمع إليها بعيدا عن كل ما أثقل كاهله وعايش فصوله العبثية لمدة تفوق الخمسة عشر عاما. في المعرض سترة تشبه درعا نسجته الفنانة من شرائط الكاسيتات الفارغة وتلك التي أتلفها الزمن، وربما يردنا هذا الدرع إلى محتواه أو إلى مادته الأولية وهي الموسيقى المعزوفة أو المؤلفة ضد عبثية الوجود بشكل عام وعبثية الحرب بشكل خاص.إعادة تدوير "سحري" في أرجاء الصالة أيضا لوحات حبكت فيها الفنانة بطريقتها الكولاجية الخاصة قصاصات من كتابات الموسيقار مع مساحات بيضاء تحاكي السكون، وبه تفتح المجال لنطق السكون و”التردد” الموسيقي إلى آفاق مستقبلية بعيدا عن عتمة الصناديق المُقفلة. وفي وسط الصالة تضع الفنانة عملا تجهيزيا قوامه إسطوانة تشكلت من نسيج الشرائط التسجيلية الفارغة والمتقطعة التي عثرت عليها في الصناديق، وكأنها في ذلك تحاول “سحريا” إعادة تدويرها لتكون تلك المادة الأساسية التي حلم والدها بأن يدمغ عليها بصماته الموسيقية. واشتهرت نوفل بأعمالها التي تتناول الحرب اللبنانية بأسلوب خاص استخدمت فيه عوالم موسيقى الجاز لكي تعبر عن التصدع والترقب والأمل ولانهائية الاحتمالات، وحسّ مواجهة الموت، كما تولت ترجمة نبرات موسيقى الجاز الارتجالية في أشكال وأعمال بصرية أضافت إليها شذرات من مراحل مختلفة من حياتها الفنية. “نظريات بصرية”، وجدت طريقها إلى لوحاتها التشكيلية حاملة منطق الكولاج وفلسفته الخاصة، لتخبر الناظر إليها عن أنواع وأشكال العلاقة التي تربط ما بين القيم اللونية والشكلية، والتفلتات الارتجالية التي تعرفها جيدا الموسيقى الشرقية، كما تعرفها ولو بشكل مختلف موسيقى الجاز. ووقعت غريتا نوفل خلال أيام المعرض كتابها الفني المعنون بـ”نبضات الجاز”، كتابا يشهد على عشقها لموسيقى الجاز، رفيقها الأساسي في حياة بدأت ونضجت في أجواء الحرب اللبنانية، وقد ذكرت الفنانة في أكثر من مناسبة كيف كانت أصوات القذائف والرصاص المُتفرق تُسمع عن بُعد في الليالي التي كانت تحضر فيها حفلات الجاز في مقهى “البلونوت” الشهير الذي وشم ذاكرة معظم جيل الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بأجمل الذكريات.

مشاركة :