عمر حمدي السوري في منفاه المزدوج بقلم: فاروق يوسف

  • 2/19/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

الرسام السوري كان يحلم في أن يكون معرضه صادما أكثر وهو ما دفعه إلى أن يحرق لوحات ذلك المعرض في إحدى ساحات دمشق. العربفاروق يوسف [نُشرفي2017/02/19، العدد: 10548، ص(10)] عمر حمدي التعبيري الأخير في زمن سوء الفهم لندن – "لو لم يكن كرديا" بالنسبة إليّ فإن الوضع سيكون أفضل. عمر حمدي قبل أن يكون مالفا النمساوي كان معلم رسم سورياً. لم يكن كرديا بالطريقة القاسية التي انتهى إليها وهو يمارس الدعاية لهويته التي ما كان في حاجة إليها لو أنه تماهى مع هويته العالمية التي كان يلوّح بها بين حين وآخر. عالميته تلك، وهي فكرته الشخصية عن وجوده فنانا نمساويا، أتاحت له فرصة أن يرى أمّه عام 1994. لقد سُمح له بأن يدخل إلى سوريا ويخرج منها من غير أيّ مساءلة. كان اسمه يومها مالفا. الحائر في غربته ربما لم تكن السياسة لعبته المناسبة، لذلك كان يقف دائما في المكان الخطأ. لقد قدّم نفسه مناضلا قوميا “خمسون سنة وأنا أحمل في داخلي قصة شعب. لم أملك سوى المنفى في لوحتي لغة أو وطنا يرسم موتي” غير أن فيينا لم تكن المسرح المناسب لرواية تلك القصة. الشبهات التي أحيط بها عمر حمدي من قبل معارضي النظام السوري لا قيمة لها ولا معنى. ذلك لأنها وضعته في مكان لا يشبهه. مثلما كانت كرديّته صفة لا تمتّ إلى فنّه بصلة فقد كان اتهامه بالعمالة للنظام نوعا من الفكاهة السوداء. حمدي الذي أحرق لوحات معرضه الأول الذي أقامه في دمشق ولم يزره أحد كان قد كشف عن أسباب فعلته وقال "الفقر والانحطاط اللوني لدينا كانا سببين كافيين لأن أحوّل تلك الألوان إلى رماد". لقد تماهى ابن الحسكة مع عالميته إلى درجة نسيان كرديته. أما حين يكون محاطا بالأكراد فقد كان يحرص على أن يكون رمزهم. هل كان عمر حمدي حائرا بين قوميته وعالميته؟ ما يبقى منه هو الرسم. فرسومه لم تكن تشي بشيء من تلك الحيرة. صحيح أنه كان عنيفا، غير أن ذلك العنف كان جزءا من التعبيرية الألمانية الجديدة التي كان مالفا واحدا من مريديها المتأخرين. ولد عمر حمدي عام 1951 في قرية تل نايف في أقصى الشمال السوري. خلال سنوات دراسته في الحسكة اضطر إلى العمل ليلا في دار للسينما خطاطا ورسام مناظر وقاطع تذاكر. وقد سلمته تلك السنوات العجاف إلى العمل عتالا في سوق الخضار. رسام وجوه شخصية عام 1968 وبعد أن أنهى دراسته في دار المعلمين حمل حمدي لوحاته على ظهر شاحنة واتجه بها إلى دمشق. هناك التقى ناقد الفن المعروف عفيف بهنسي الذي كان يعمل مديرا للمركز الثقافي العربي. أبهرت اللوحات بهنسي فقرر أن يقيم للفنان معرضا شخصيا. لم يكن الفنان قد تجاوز يومها الثامنة والعشرين من عمره، غير أن لوحاته التي كان يوقعها باسم مالفا مستلهما بطل إحدى قصص تشيخوف أحدثت صدى طيبا لدى الفنانين. وكما يبدو فإن مالفا كان يحلم في أن يكون معرضه صادما أكثر وهو ما دفعه إلى أن يحرق لوحات ذلك المعرض في إحدى ساحات دمشق. سنة مرت عليه في مدينته القصية من غير رسم كانت كفيلة بأن تعيده إلى الفن بطريقة مختلفة ومن غير صخب هذه المرة. فبسبب اضطراره إلى أداء الخدمة الإلزامية في سرايا الدفاع عاد حمدي إلى دمشق بعد سنتين من ذلك الحادث ليعمل في مجلة الفرسان مصمما ورساما صحافيا، كما اجتهد في كتابة النقد الفني. بدأت رحلته مهاجرا ببيروت عام 1978 ليستقر بعدها في فيينا ليمضي هناك سبعا وثلاثين سنة أصبح أثناءها عضوا في اتحاد الفنانين النمساويين كما ترأس لجنة التحكيم في غاليري أرت فوروم للفن الدولي المعاصر. مالفا الذي توفي عام 2015 لم ينقطع عن زيارة بلده وكان دائم الحضور في المشهد الفني السوري. الرسام في مواجهة شرور العالم بقدر ما سعى مالفا إلى تقديم تجربته إلى جمهوره الأصلي بما يضفي عليها من هالات إعجاب عالمي قد لا تكون حقيقية دائما فإنه اجتهد كثيرا في محاولة تبسيط المفاهيم الفنية المعاصرة وتقديمها نظريا إلى الجمهور العادي. بمعزل عن مالفا كانت كتبه تقول شيئا مختلفا. "قاموس عالم النقد الفني" الذي أصدره عام 1999 باللغة الإنكليزية يمكن أن يقدم صورة عن الشخص التنويري الذي كان مالفا يمثله. قطيعة جمالية وفكرية مع الفن السائد في سوريا فالرسام الذي مثلت تجربته نوعا من القطيعة الجمالية والفكرية مع الفن السائد في سوريا كان قد وضع ثقافته ووعيه في خدمة الفن في سياقه المعرفي. كان يحلم بظهور جمهور يختلف عن ذلك الجمهور الذي قاطع معرضه الأول ودفعه إلى حرق لوحاته. مشروع مالفا في الفن كما في الحياة لم يكن سياسيا. مالفا نفسه لم يكن رجل سياسة، بالرغم من أن البعض صار يزعم أنه صاحب قضية. بالنسبة إلى مَن يرى لوحاته فلا فرق بين أن يكون مالفا كرديا أو لا يكون كذلك. مالفا في الأساس هو رسام وجوه شخصية (بورتريه). ما عداها فقد كانت نزهات في أماكن متعوية، كان الرسام من خلالها يتذكر أشكالا في العيش. هل يمكن أن ينفصل الفنان عن رؤى حنينه إلى المنزل الأول الذي اكتشف فيه كينونته؟ لذلك لا يكمن أن نفصل مالفا عن كرديّته. في كل لحظات حياته تمنى مالفا أن يكون عالميا، أن يُقدم باعتباره فناناً عالمياً. ولكن ذكرياته الشخصية أفسدت عليه الطريق في اتجاهين لم تكن له يد في تكريسهما. هناك مَن اعتبره رجل قضية وفي المقابل هناك مَن اعتبره خائنا لتلك القضية. وحدها سليفيا سيفيريوس، زوجته النمساوية التي عاشت معه حوالي عشرين سنة فهمت حقيقة الإنسان الذي كان يقيم في داخله. حوّل الفقر والانحطاط اللوني إلى رماد وهو ما دفعها إلى الانتحار برمي نفسها أمام القطار الذي يمر من أمام بيتها بعد أن تأكدت أن مالفا لن يعود أبدا إلى البيت. كانت إنسانية مالفا هي مقياسها الوحيد لمعرفة خلوّ العالم من الشر. التعبيري الأخير حاول عمر حمدي ألاّ يكون تعبيريا بالطريقة التي تجعل منه جزءا من تجربة فنية، كان التاريخ الفني قد تجاوزها. غير أن حياته في النمسا التي تفرض عليه أن يكون امتدادا للثقافة الألمانية لم تسمح له فعل ما يشاء بحرية المتمرد. لقد تمكنت منه الحرفة. فهو رسام أكاديمي بقوة خبرته التقنية، غير أنه في الوقت نفسه يدين بالولاء للتعبيريين الألمان الذين علّموه كيف ينظر إلى الإنسان، باعتباره هدفا. لم يكن في إمكان مالفا أن يفلت من مصيره. لقد سبقه إلى ذلك المصير ابن بلده مروان قصاب باشي الذي أصبح واحدا من أهم الفنانين الألمان في مرحلة متأخرة من مراحل التعبيرية الألمانية الجديدة التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا ما كان مروان في المرحلة التي ظهر فيها قد استطاع أن يكون جزءا من التيار الألماني الذي عُرف بتجهمه، فإن مالفا قد تأخر كثيرا. لذلك كانت تجربته أشبه بالصدى المتأخر الذي يغلب عليه طابع الشحوب. كان يمكن له أن يكون فنانا كبيرا لو أنه لم يقع بين سندان كرديته ومطرقة ألمانيته. غير أن ذلك لم يقف بينه وبين موهبته في التعبير عن إنسانيته. كان مالفا إنسانا عظيما.

مشاركة :