عندما تكتسي لغة الصحافة بالخيال الأدبي بقلم: كرم نعمة

  • 6/24/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لم تكتس اللغة الصحافية اليوم بالخيال الأدبي، ليس لأن الأدباء دائما صحافيون فاشلون لا يتنازلون عن غرورهم، بل لأن الصحافيين أيضا مباشرون في لغتهم إلى درجة لا يحتفون بخيال اللغة عند الحاجة إليه، ويكتفون بسهلها غير الممتنع.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/06/24، العدد: 10673، ص(18)] كان رحيل المستشار الألماني السابق هيلموت كول هذا الأسبوع مناسبة كي تكتسي لغة الصحافة بنوع من الخيال الأدبي، بعد أن شح هذا الخيال ولم تعد الصحافة تحتفي بكتابات مثلما كان يتوّج بها أمبرتو إيكو مقالاته الصحافية وهو يناقش كل شيء في الحياة، من حقائب السفر حتى هواتف السياسيين. استعان بعض الكتاب في نيويورك تايمز والغارديان بالتاريخ الذي كان يرتديه هيلموت كول معطفا، من أجل الكتابة عن الراحل، لم تكن اللغة مباشرة عندما يتعلق الأمر بالسياسي الذي وحّد ألمانيا وكان من بين من دفعوا بقوة القاطرة الألمانية للاتحاد الأوروبي، قبل أن يضع الشعبويون العصي في طريق الاتحاد. لم تفقد مثل هذه المقالات حسها الصحافي وإن كانت متوجة بنوع من اللغة الفخمة والمدججة بالخيال والأمثلة التاريخية المعبرة والرصينة، مثلما أعادت الحاجة الماسة والعاجلة للتخلص من اللغة السطحية والمباشرة. كان تاريخ وشخصية كول فرصة لكتابة صحافية من هذا النوع. مع أن مثل هذه اللغة لم تنقرض، لكنها بدأت تضعف بوجود سياسيين ضعفاء لايكتنزون بعلوم السياسة مثلما تكتنز اللغة بالخيال الفذ، وصحافيين لاينظرون بأكثر من عين ويمشون بأكثر من قدم ويسمعون بأكثر من أذن، لا يوجد صحافيون يغطّون البيت الأبيض اليوم، بل يوجد صحافيون يغطيهم البيت الأبيض، حسب تعبير المراسل السابق لصحيفة نيويورك تايمز راسل بيكر. والحال هذه في أعرق بلدان الحريات الصحافية، فكيف إذا كان الحديث عن بلد عربي! كانت سطحية باراك أوباما ومن ثم تهريج وعجالة دونالد ترامب سببا لأن يكون ثمة معادل لغوي في الصحافة يتناسب مع مؤهلات سياسيي هذا الزمن. هذا المثال ليس مقتصرا على الولايات المتحدة. إن يوجد سياسيون عرب بمواصفات رجال الدين هذا يعني بالضرورة أن يرافقهم وجود صحافيين يحظون بالفشل ولا يستطيعون تقديم أكثر منه. فلم تمر علينا دروس سياسية جديدة لترتقي بها اللغة الصحافية، ولم يعد ثمة قدر من السياسيين اليوم كما كان من قبل، سياسيو اليوم تصنعهم المصادفة والوهم بقوة الخرافة الدينية والولاء إليها، كما يحدث في العالم العربي. حتى التاريخ لا يمنح مثل أولئك السياسيين دروسه الكبرى، بل يلجأون إليه عندما يتعلق الأمر بحاجتهم وولائهم الطائفي لتصبح الاستعارة منه ملتبسة وخالية من الحكمة ومثيرة للشقاق في النهاية. وهذا يعني بالضرورة أن ما يكتب عنهم لاحقا في الصحافة سيكون بمستوى سطحية ما ينتجه هؤلاء السياسيون. من بين الدروس الصحافية النادرة التي مرت علينا مؤخرا مسعى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى العودة بنظيره الأميركي ريكس تيلرسون إلى التاريخ، لكنه وُوجِه بسد منيع، وكأن التاريخ بلا ذاكرة في اللقاء الأول بين الوزيرين. وسعى لافروف إلى إعطاء نظيره الأميركي تيلرسون “الحديث العهد” في الدبلوماسية درسا في أهمية معرفة التاريخ للاستفادة من دروسه، مؤكدا له أن من لا يتعلم من دروس الماضي لا يمكنه أن يعالج مشاكل الحاضر، لكنه فشل في النهاية عندما لم يجد من نظيره الأميركي غير كلام عن مشاكل الحاضر، فالتاريخ ليس من مهمة وزير خارجية مستجد. هذا الدرس السياسي اللافروفي! قُدم أيضا لكتاب الأعمدة الصحافية، لكنه مر عاجلا من دون أن ينظر إليه كما ينبغي. لم تكتس اللغة الصحافية اليوم بالخيال الأدبي، ليس لأن الأدباء دائما صحافيون فاشلون لا يتنازلون عن غرورهم، بل لأن الصحافيين أيضا مباشرون في لغتهم إلى درجة لا يحتفون بخيال اللغة عند الحاجة إليه، ويكتفون بسهلها غير الممتنع، في نوع من الخشية يفسر تحت بند المهنية والموضوعية والحياد! وهي مسميات ليست صالحة دائما عند الكتابة، فالصحافة لا تنتهي بالخبر وأدواته التقليدية، ثمة ماهو أكثر يفرضه المحتوى المتميز بعد أن قتل المواطن الصحافي الخبر وصنعه لحظة حدوثه على منصته الاجتماعية. لست مفرطا في التفاؤل أكثر مما ينبغي كي أطالب كتاب الأعمدة الصحافية أن يجعلوا من اللغة بنك أحلامهم، كما كان يفعل الروائي والفيزيائي أرنستو ساباتو، لكنهم بحاجة إلى ما كان يرتديه غارسيا ماركيز عند الشروع بالكتابة، بدلة العمل تماما مثل الميكانيكي، من أجل إعادة تركيب العلائق بين الكلمات وصنع المحتوى، فاللغة الجاهزة لا تحتاج بدلة عمل، إنها متوفرة ويتداولها الناس في المقاهي والأسواق. البراعة تكمن في إعادة صناعة هذه اللغة. تصنع لوسي كيلاوي الكاتبة الصحافية في فايننشيال تايمز التي تحولت إلى مُدرسة رياضيات، إلى ما يشبه تلك اللغة في مقالاتها الصحافية عندما ترفض كلمة “نعم” بشكل متطرف. وتعيد اكتشاف قوة الرفض ذات التأثير الكبير على الحياة و”كيف يمكن الإجابة بالرفض دون الشعور بالذنب”. بالتالي، الإجابة بكلمة “لا” لا تحظى بالمكانة الطائشة نفسها التي يحظى بها الفشل، الذي ظل الجميع مصرين على الاحتفال به منذ عقد من الزمن على الأقل. لوسي مثل الراحل أمبرتو إيكو تحتفي بقوة اللغة في مقالات صحافية وليست كتب فلسفية عصية على الفهم، وهي مقروءة بدرجة كبيرة من قبل قراء صحيفة فايننشيال تايمز. لذلك تبدو لي مثالا متميزا عندما أعود إليها في الدعوى من أجل أن تكتسي لغة الصحافة بالخيال الأدبي. يبدو لي أن السؤال الأهم الذي ينبغي على كتاب الأعمدة الصحافية إطلاقه على أنفسهم بشكل دائم، “لست مضطرا للكتابة إلا عندما تتوفر الفكرة الجديدة”، لكن -ويا لسوء حظ القراء- أغلبهم يكتبون اليوم تحت هاجس الاضطرار! كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة

مشاركة :