يؤمّن الرئيس الأميركي الخامس والأربعون دونالد ترامب مادة سخية للتعليق على طريقة أدائه في ممارسة سلطاته. فقد أضاف إلى الحياة السياسية والعامة ما يشبه المسرح المتحرك باستمرار. البعض يطلق على طريقته صفة الحيوية، فيما يرى بعض آخر أن ما يقوم به ينال من هيبة رئيس الدولة الأكبر والأعظم في العالم. لكن هذه الشخــصية الإشكالية على قياس أميركا والعالم خلقت العداوات مع أكثر من طرف حتى في مرحلة متقدمة لم تبلغ بعد المئة يوم الأولى من ممارسة السلطات. ويخوض الرئيس دونالد ترامب معارك شرسة وضارية مع الصحافة الأميركية وحتى مع أبرز المؤسسات الإعلامية كجرائد «نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست»، و»وول ستريت جورنال»، وغيرها. هذا في جانب الصحافة المكتوبة، أما في ما يتعلق بالمؤسسات الإعلامية المتلفزة وأبرزها محطات «أي بي سي» و «إن بي سي» و «سي إن إن» فالوضع لا يختلف عن الانتقادات اللاذعة التي توجه إلى ترامب بأقسى العبارات. وبلغ من حالة العداء بين البيت الأبيض والصحافيين الأميركيين أن أعلن ترامب عن مقاطعته للحفل السنوي الذي يقيمه الصحافيون الذين يتولون تغطية أخبار ونشاطات البيت الأبيض، حتى قبل شهرين من إقامة هذا التقليد المتعارف عليه في واشنطن منذ فترة طويلة. ليس ذلك فحسب، بل إن الدوائر المقربة من الرئيس ترامب منعت عدداً من الصحافيين من حضور المؤتمر الصحافي اليومي الذي يعقد في البيت الأبيض عند الثانية عشرة ظهراً، ومثل هذه التصرفات أثارت الكثير من حالات الاشمئزاز، لما أقدم عليه الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض شون سبايسر من استبعاد بعض الصحافيين من ممارسة المهنة في متابعة ما يجري في البيت الأبيض. ومثل هذه الممارسات والتصرفات تذكرنا ببعض ما تقدم عليه بعض دول العالم الثالث في التضييق على الحريات العامة، لأن حكامها لا يرغبون في سماع أي صوت آخر غير عبارات الإطناب والتصفيق ولو الكاذبين. وفي كل حال فترامب أصبح الآن رئيس الولايات المتحدة شاءَ من شاءَ وأبى من أبى، وإن كانت تتظاهر يومياً مجموعات حزبية مناهضة له تعبيراً عن عدم رضاها. وهذا ما يعكس حال الانقسام القائم في الولايات المتحدة. وقد بدا المشهد واضحاً لجهة التعبير عن هذا الانقسام خلال إلقاء الرئيس ترامب خطابه الأول أمام الكونغرس بمجلسيه، وعكست الكاميرات التلفزيونية المشهد بواقعه كالتالي: بدأ النواب والشيوخ الذين ينتمون إلى الحزب الجمهوري وكأنهم في احتفال كرنفالي حيث تعمدوا التصفيق وقوفاً بعد كل عبارة من خطاب ترامب، وتكرر هذا المشهد ما يزيد على مئة مرة، فيما كان نواب وشيوخ الحزب الديموقراطي المعارض في حال من الاستماع الرسمي من دون إبداء أي رد فعل تجاوباً أو تأييداً. وفي الانتقال من الشكل إلى المضمون، لوحظ أن لهجة خطاب ترامب اتسمت بنوع من التهدئة عكس الصورة الصاخبة التي يبدو عليها خلال أحاديثه. وقد منح الأولوية للجانب العسكري والأمني وما يتصل بالدفاع عن أميركا «حيال ما تواجهه من أخطار». وبدت طليعة هذا الاهتمام بإعلانه عن تخصيص 54 مليار دولار لتعزيز القدرات الدفاعية، وحرص على أن يقدم صورة مشرقة عما ستكون عليه ولايته من نشر الضمانات من كل نوع لأفراد الشعب الأميركي. كذلك اغتنم الفرصة ليوضح بعض قراراته المتعلقة بمنع دخول رعايا سبع دول إلى الولايات المتحدة، وهو القرار الذي أثار موجة عارمة من الغضب، إضافة إلى الخطط التي أعلن عنها، وتتعلق بتهجير ملايين من المقيمين غير الشرعيين في الولايات المتحدة. ولم يحتل الوضع في الشرق الأوسط أهمية خاصة في الخطاب، وكانت إشارته إلى مواصلة شن الحرب على مقاتلي الدولة الإسلامية «داعش»، الخبر الأبرز في هذا المجال. وبالعودة إلى الوضع المتفجر في المنطقة يمكن الإشارة إلى بعض التفاصيل التي لا تخلو من الأهمية، ومنها تطورات الوضع في سورية، ومسار عملية السلام والتي يجري العمل على تحضيرها، في حين أن ما يجري في جنيف لا يمس في شكل مباشر التوصل إلى حل سياسي للوضع في سورية. والحديث عن تفاصيل عملية انتقال السلطة من الواقع الحالي إلى «واقع آخر». وفي هذا السياق، أستطيع أن أنقل إلى قراء «الحياة» بعض المعلومات ذات العلاقة المباشرة بالأحداث الساخنة، وهي معلومات وردت على لسان «موظفة رئيسية» في وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن (تؤثر عدم الكشف عن الاسم)، وهي كالتالي: وجهت واشنطن رسالة مباشرة إلى الرئيس بشار الأسد مفادها: «لقد ربحت الحرب العسكرية ربما، لكن هل أنت بقادر على كسب معركة السلام؟». وفي «ترجمة» لمضمون هذه الرسالة في أكثر من اتجاه، هناك الاعتراف الواضح بفشل كافة الحلول العسكرية من دون أن يعني ذلك نصراً عسكرياً واضحاً للنظام، على رغم «الرافعة الروسية» التي تحميه، أو لنقل أن عدم سقوط نظام الأسد أصبح هو الإنجاز. كذلك يمكن الإشارة إلى الموقف الذي عبرت عنه مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. فهي تعترف بأن الرئيس الأسد انتصر في حلب، لكنها تتساءل: هل يستطيع بشار الأسد جمع كل فئات الشعب السوري، وإعادة اللاجئين إلى بلدهم وانتظام الحياة السياسية في هذه الدولة الجريحة؟». ماذا عن الحل السياسي الذي يتردد أنه موضع نقاش في جنيف بين وفد النظام السوري وممثلين لبعض الفصائل المقاتلة، برعاية الأمم المتحدة ممثلة بستيفان دي ميستورا؟ يشير أكثر من مصدر يتابع عن قرب ما يطلق عليه «الحل السياسي» إلى أن الأمر ينطوي على أكثر من عملية تضليل في هذا المجال. وتؤكد المصادر «أن الأزمة في مكان، والحلول المتداولة في شأنها في مكان آخر، وأن كل ما يصدر من تصريحات أو يُسرب من معلومات، كلها شعارات جوفاء خالية من أي محتوى جدي». وما يلاحظ في هذا الشأن استخدام طروحات مضللة ولا ترتبط في شكل جدي ومباشر بما يجري في الميدان. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يتردد كلام كثير على «الحل السياسي»، لكن ماذا يعني هذا الكلام من الناحية العملية؟ هو يعــني أن على فــريق النــظام التخلي عن سلــــطاته ونقــلها إلــى المـــعارضة... أو المعارضات. وهذا الأمر مستبعد حدوثه تماماً. من عادات الحروب بعض «الأعراف والتقاليد»، كأن تتنهي الحروب بمنتصر ومهزوم. وفي واقع الحال ليس هناك من منتصر واضح، ولا مهزوم واضح. فالنظام لم يتمكن من استعادة أراضي الجمهورية العربية السورية، ولا فصائل المعارضة استطاعت أن توحد صفوفها وتكون بديلاً مقنعاً أو جاهزاً لتولي السلطة، وكل ما يتردد وفي شكل ببغائي أحياناً لا يعكس حقيقة الواقع. ومهما حدث ويمكن أن يحدث، سيصعب تصور «لملمة أشلاء سورية» على حد تعبير بعض الذين قاموا بأدوار الوساطة في أوقات سابقة، والتي انتهت بالفشل المعلوم. فمثلاً لا حصراً، يقول الوسيط الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي في بعض التقارير التي رفعها إلى الأمين العام للأمم المتحدة: «إنني أتوقع الصوملة في سورية». إن اعتماد الواقعية السياسية في النظرة إلى ما تشهده المنطقة يوجب الاعتراف بأن كل ما يجري لا يعدو كونه عملية إلهاء وتضليل... لأن ما كتب قد كتب! وبعد... بدأنا المقال بالحديث عن الرئيس الأميركي «الظاهرة» دونالد ترامب وننتهي به. لقد رسم الشعار الكبير لفترة حكمه بالقول: أميركا أولاً وأخيراً، ظالمة كانت أم مظلومة، وهذا يعكس سياسة التشدد والتصلب التي ستسود البيت الأبيض خلال السنوات الأربع المقبلة، هذا إذا لم يحدث ما ليس في الحسبان. وهنا يشار إلى كلام أصبح في سوق التداول على احتمال اختصار ولاية ترامب! عبر التشكيك بقدرته على ممارسة سلطاته الدستورية بما يحفظ مصالح أميركا. وفي مجال الاستعارة والتشبيه من بعض الثورات والانتفاضات التي شهدتها بعض الدول العربية، يمكن ترداد عبارة «الشعب يريد إسقاط ترامب». وفي ما يعنينا في لبنان والمنطقة، من غير الواضح حتى الآن ما ستكون عليه المواقف الأميركية. وهنا يمكن الإشارة إلى التطور الخطير الذي حدث قبل أيام ومرّ مرور الكرام، ألا وهو الإعلان عن سقوط حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية... وما هو البديل الآتي؟ وفي ما يتصل بموقف ترامب من إسرائيل تفيد بعض المعلومات بأن اللقاء الذي تم بينه وبين بينيامين نتانياهو لم يكن كما يشتهي الطرف الإسرائيلي، وقد جرى عقد «أول صفقة» بين واشنطن وتل أبيب تقضي بتجميد نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما أعلن ترامب خلال حملته الانتخابية. ولا يمكن الختام من دون الإشارة إلى ما ستكون عليه العلاقات الأميركية الروسية نظراً إلى «العلاقة الجيدة» التي تربط ترامب بفلاديمير بوتين، وبخاصة عندما تبين أن موسكو لعبت دوراً إيجابياً في فوز الرئيس الأميركي. وعليه تجب متابعة ما ستكون عليه المواقف الأميركية والروسية من الدول الملتهبة في المنطقة. وأفادت معلومات عن «تفاهم ضمني ومبدئي» لرجلي واشنطن وموسكو حيال الأحداث في سورية، وقيل إن ترامب أبلغ بوتين «استبعاد موضوع بشار الأسد في الوقت الحاضر»، والتركيز على الحرب على الإرهاب وعلى «داعش». يحدث كل هذا، لكن يبقى شعار: «الآتي أعظم» قائماً! وقد يُعبَّر عن المرحلة ببعض التساؤلات: على صعيد المنطقة: ما هي تداعيات سقوط مبدأ الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية؟ وإلى ماذا يشير الحديث عن مفاعل «ديمونا» في هذا التوقيت بالذات؟ وما صحة المعلومات عن احتمال إقدام نتانياهو على «خبطة ما» تخلط أوراق المنطقة من جديد؟ وما التأثير المباشر لعملية اقتراب لبنان من فتح عملي لملف النفط؟ ويتساءَل المواطن اللبناني العادي: إذا كان سياسيو المرحلة يعجزون عن الاتفاق على قانون انتخاب جديد، أو إصدار قانون يهدف إلى إرضاء البعض، فهل ينتهي الأمر بإغضاب الجميع؟! * إعلامي لبناني
مشاركة :