اعتماد خطوة الاتحاد الأوروبي الحالية المتعلقة بكتابة تاريخ موحد للدول الأعضاء بداية حقيقية لتأليف كتاب تاريخي لكل العالم. في الكتاب الموحد لدول أوروبا لا تجد فيه تبريرا أو تمجيدا لدكتاتوريين، أو ذكرا لحروب عنصرية أودينية جمعتني الصدف مع المؤرخ البريطاني جون بورمان، وهو من المختصين في التاريخ السياسي البريطاني. وقبل الحديث عما دار في اجتماع الصدفة أحب أن أقول إن السيد بورما نشر كتابًا ماتعًا عن السياسي والسفير نيكولاس أوكنور. وهو من السفراء الذين لعبوا دورا كبيراً في العلاقات العثمانية - الأوروبية، خصوصا أنه تولى سفارة بريطانيا لدى السلطنة العثمانية في حقبة زمنية مفصلية (1898-1908) وعرفت أن مركز التاريخ السياسي العثماني نشر للدكتور بورمان كتابه عن السفير أوكنور. حديث الصدفة كان عن فكرة جديدة وواعدة، وهي: مفهوم إدارة التاريخ وآلياته. وقد استمعت طويلاً لتنظير أشبه ما يكون بالتنظير التجريدي. وهو قال لي إنه طلق الأكاديمية، لأنه وجد أن درس التاريخ في الجامعات الأوروبية لم يتطور منذ خمسينيات القرن الميلادي الفارط. لهذا قرر صاحبنا أن يترك التدريس ويتجه لدراسة اللغتين العربية والفارسية، وقد توفر على نسبة معقولة، ثم ذهب إلى باريس ودرس اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية. بهذه الحصيلة وجد له عملاً في بنك الاستثمار الألماني، وعلى مدار خمس سنوات استطاع أن يحقق للبنك نجاحات استثمارية في الشرق الأوسط. وقال إنه وظف خلفيته التاريخية ومعرفته بلغات الشرق الأوسط وثقافته في ميدان الاستثمار المالي عند الشعبين العربي والإيراني، ثم بفكرته عن إدارة التاريخ. كل هذا جعله يحقق نجاحات عملية في الاستثمار. ولما سألته توضيحًا أكثر عن علاقة إدارة التاريخ بنجاحه في عمله المالي. قال يجب أن أقول لك ما أقصد بإدارة التاريخ. تخصص التاريخ لا يعني فقط تخريج أساتذة يُعلمون التاريخ الصامت (هكذا يسميه) في المدارس العامة والجامعات. ولا يعني كتابة بحوث مكررة ويغلب عليها توظيف فن الرواية الفرنسية لتبدو للقارئ أنه تاريخ جديد. كما أنه لا يعني الفكرة التي يقول بها المؤرخون الجدد في أمريكا. إدارة التاريخ هي جعل التاريخ تخصصًا يشبه تخصص إدارة الأعمال والاقتصاد، وأن يكون المتخصص في التاريخ قادراً على خلق بيئة استثمارية، وقادراً على أن يوظف الخلفية التاريخية قاعدة للتحليل النفسي. وأن يكون المنتج التاريخي قابلًا للقياس. الدكتور بيرمان ينادي الآن بفكرة اسمها: إدارة التاريخ. وهو يقول إن إدارة التاريخ لو طبقت لرأينا مجتمعاً إنسانياً شبه موحد. وفكرته تقوم - حسب ما شرحه لي- على ما يلي: أولاً: جعل درس التاريخ مرتبطاً بالواقع المعاش وعدم التشبث بالماضي أكثر من اللازم. وفي نظره أن التقليل من الماضي لا يعني إلغاء الماضي، ولكنه يعني المزاوجة بين الماضي والحاضر. ثانياً: الاستعانة بعلوم الاقتصاد والإدارة الحديثة وعلم النفس في صنع هيكلية جديدة لتقسيم حقب التاريخ بحيث تتسق مع التطور المذهل في العقل البشري ومع ثورة التقنية. ثالثاً: توظيف الآلة الحديثة ومناهجها وبرامجها في البحث والتدريس والنشر، حتى لا يبدو المؤرخ أنه أضحى نفسه تاريخًا. عند هذه النقطة تذكرت بيت الشعر الخالد: (ما زلت تكتب فى التاريخ مجتهداً حتى رأيتك فى التاريخ مكتوباً). رابعًا: اعتبار التاريخ بكل تراكمه المعرفي ميدانًا للاستثمار المعاصر، وهذا يتطلب نزع الخصوصية أو الشوفونية أو الأدلجة منه، وجعله تاريخًا للإنسانية وملكاً لها. وهو يقول ليس هناك تاريخ بريطاني أو روسي. التاريخ نتيجة صراع مادي أو اختلاف في وجهات النظر بين شركاء مستثمرين. ويضيف ما ضر التاريخ إلاّ كونه أضحى مادة للسياسي يلعب به ويوظفه في صراعاته السياسية. ويضيف إن التاريخ سبب في نشوب الصراعات الدينية والحروب الدينية والسياسية، ذلك أن رجل الدين يلتفت إلى التاريخ وإلى مدوناته الدينية من أجل دعم موقفه ضد أعدائه. خامساً: اعتماد خطوة الاتحاد الأوروبي الحالية المتعلقة بكتابة تاريخ موحد للدول الأعضاء بداية حقيقية لتأليف كتاب تاريخي لكل العالم. في الكتاب الموحد لدول أوروبا لا تجد فيه تبريرا أو تمجيدا لدكتاتوريين، أو ذكرا لحروب عنصرية أو دينية قامت بين شعوبها وما أكثرها. وهو يتوقع أنه بعد مضي عقدين أو أكثر من الآن يستحيل أن تنشب حرب بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، بل دول أوروبا تسير نحو اندماج اقتصادي ومعرفي. هذه فكرة الدكتور جون بورمان عن إدارة التاريخ. وهي إدارة ستنتج على حد قوله مجتمعا إنسانياً يجعل من تاريخه أداة لخدمة الإنسانية لا لتمزيقها..
مشاركة :