تقبل على المنطقة الثالثة عشرة بباريس -والمشهورة بمكتبتها المبنى الذي على هيئة أربع كتب تحيط بحديقة مكتبة فرانسو ميتران التي تم إنشاؤها عام ١٩٩٠- وتُفاجأ بالجداريات الضخمة التي تتصدر بعض مبانيها، وحين نعرف أن فن الجرافيتي من الفنون الممنوعة وأن البوليس يطارد منفذيها فإننا نتساءل كيف تمكن فنانو الشارع من تنفيذ أعمالهم على تلك الارتفاعات الشاهقة وبتلك الأحجام العملاقة مغطية واجهات مبانٍ بالكامل، حيث يبلغ ارتفاع بعض الأعمال ما يقارب الخمسة وعشرين متراً. وبعد التحري ندرك أن تلك الجداريات هي ضمن مشروع رائد وضعه عمدة المنطقة الثالثة عشرة جيروم كوميه Jérôme Coumet بالتعاون مع جاليري مهدي بن شيخ، والمشروع يحمل عنوان متحف في الهواء الطلق أو متحف مفتوح للسماء. عشر جداريات تم خروجها للحياة حتى الآن ضمن مشروع يهدف لتنفيذ ثلاثين جدارية يقوم بتنفيذها فنانو الجرافيتي المشاهير على مستوى عالمي، تتجول في المنطقة الثالثة عشرة وتلفت نظرك الجداريات المحلقة على المباني الشاهقة على جانبي الطريق الممتدة بموازاة قطار الأنفاق رقم ٦، مابين ساحة إيطاليا ومحطة شوفالريه، أعمال فنية مثيرة للجدل تتجمع بزخمها في مكان واحد وتشكل ما يشبه حواراً لحضارات مختلفة شرقاً وغرباً، مثل عمل الفنان الأميركي فرانك فيري Frank Shepard Fairey المشهور بعمله المسمى أمل أوباما، والذي قام هنا بتنفيذ جدارية ضخمة تمثل رمز الثورة الفرنسية ماريان Marianne، المرأة التي تتصدر الطوابع الفرنسية بصفتها محاربة من أجل الحرية ولقد وظفها الفنان فرانك فيري في جداريته كتحية لضحايا العمل الإرهابي في ١٣ نوفمبر ٢٠١٥. هذا العمل المحمل برسالة إنسانية يقف في حوار مع د. هاوس بطل المسلسل الطبي الكوميدي الدرامي والذي يتصدر المشهد مطلاً من على جدار مستشفى الجامعة الشهيرة Pitié-Salpêtrière، خالطاً أبطال الواقع بأبطال الخيال حيث لا يعود ثمة فاصل بين العالمين، ولا يبقى غير الانتصار للإبداع الإنساني في مختلف صوره التعبيرية سواء جاء ذلك التعبير في هيئة نضال في ساحة معركة أو في هيئة عمل عبقري في ساحة فنية أو أدبية. مشروع تجمع الثلاثين جدارية يحظى بدعم اجتماعي إذ يعتمد على تبني سكان المنطقة الثالثة عشرة لذلك الفن المصادم، فلقد قام ملاك المباني ابتداءً بالتبرع بجدران مبانيهم لكي تحمل تلك الجداريات، وترافق ذلك مع حملة تبرع ذاتية من قبل الشركات والمحلات التجارية للنهوض بنفقات تنفيذ تلك الأعمال مثل توفير الروافع والسقالات والأصبغة وعلب الرش الضرورية لانتاج تلك الجداريات والتي تساعد الفنانين على تحدي وإعادة خلق تلك المساحات الشاهقة من الصمت والفراغ، وتحويلها لمساحات ناطقة تحفز مخيلات العابرين. "أعمال لها صفة المؤقت، وإن للعمدة الذي سيخلفني مطلق الحرية في أن يصونها أو يقوم بإزالتها". يصرح بذلك عمدة المنطقة الثالثة عشرة جيروم كوميه ماضياً في توجيه الأضواء الكشافة لتلك الأعمال لتشع في ليالي باريس منضمة لمعالمها الحضارية الشهيرة، "وإنني لأشاطر سكان المنطقة فخرهم وتعلقهم بهذا المشهد الدراماتيكي، إذ إننا لا نتخيل منطقتنا بدون هذه الشخوص الخيالية العملاقة والتي حلت بنا. إنها لشخوص ناطقة وحافلة بالتناقضات فهي طريفة وجادة في نفس الوقت سهلة وفلسفية عميقة المغزى وتضفي حيوية على ممارساتنا، تشاطرنا مشاويرنا اليومية وحواراتنا الصامتة". بحماسة يمضي العمدة في ترافعه عن مشروعه الجريء، والذي لم يقتصر على إعطاء نكهة فنية لمنطقته وإنما أعطى في نفس الوقت شرعية لفن يمكن وصفه بالفن المُطَارَد، مما أثرى المنطقة وجعلها تستقطب المهتمين بالفن وبالصرعات الفنية الحديثة سواءً من قبل الفرنسيين أنفسهم أو من قبل السياح القادمين من مختلف بقاع العالم. إنها لخطط ذكية تستحق التوقف والاحتذاء إذ لا يمكن إغفال دورها الترويجي والربحي على كل المستويات الثقافية والتجارية الاستثمارية.
مشاركة :