لا أعرف كيف أدخل من باب الحزن بقلم: نهى الصراف

  • 3/25/2017
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

كل النجاحات وأوقات الفرح كانت تمر باهتة أمامي بعد أن أصبح اسمها طيفاً في حياتي، مجرد طيف أحاول لملمته بأصابع أحلامي فيتلاشى.العرب نهى الصراف [نُشر في 2017/03/25، العدد: 10582، ص(21)] سنوات طويلة، تساقطت مني اليوم بسرعة مذهلة بعد أن ذكّرني تقويم الأعمار بأني اقتربت كثيراً من السن التي رحلت هي فيه! ولم يعد بوسعي أن أعود إلى الماضي، أو أمنّي نفسي بملمس قبلتها على خدي وأتذوق طعم حنانها وأنا أسبح في نهر الطفولة من جديد.. لكن يدا حانية ما زالت تربت على جبيني الساخن ذات حمى بعيدة، حمى لم أفق منها، منذ اليوم الأول الذي خرجت فيه بعد مرور أيام قليلة على رحيلها. كان الجو بارداً ولكني لم أشعر سوى بثقل الملابس السوداء التي حاولت أن أغطي بها على ضعفي وقلة حيلتي، وشيء ما كان يجثم بثقله على كتفي، شيء جعلني أسير وأنا مطرقة وكأنني ارتكبت ذنباً وخشيت أن يلمحه الناس على ملامحي، فتعثرت أكثر من مرة كطفل مازال يخطو أولى خطواته. في ذلك النهار البعيد، لم تكن شمس الظهيرة واضحة، غير أن نظراتي الذابلة رصدت طريقاً ضبابية ومقفرة رغم الزحام؛ صغار وكبار، رجال ونساء، أطفال وأمهات ضجّت بهم الطرقات وأنا وحدي لا أدري ما الذي عليّ فعله، هل أكمل الطريق؟ هل أعود؟ هل أهرب؟ هكذا تموت الأمهات غالباً.. يمرضن فيذهبن بعيداً من دون أن يلتفتن خلفهن. لا، لم يكن موتاً، كان غياباً داكناً، وكأن أحدهم خدعني! لهذا، رفضت مراراً أن أنصت لصديقتي، التي كانت تؤنبني كلما لمحت حسداً في نظراتي وأنا ألمح يد أم وهي تمسك ذراع صغيرها لتقطع الشارع. مرة، رأيت امرأة مسنة كانت تتسوق من بائع الخضار وتجادله في الثمن، قلت لصديقتي “أمي كانت أصغر منها بكثير، كانت شابة وجميلة، لماذا ترحل أمي وتبقى هذه السيدة؟”. ارتكبت الكثير من الذنوب، ومازلت، ذنوبي التي لا أخجل منها، وأنا أتمرد على قرار اتخذه الموت في لحظة سقطت سهواً من تقويم الزمن. كل الأمهات اللاتي مررن على دربي، منذ ذلك اليوم، كنّ موضع حسد وكانت الغيرة تأكلني وأنا أرى خيالاتهن وهي تعانق أبناء وبنات تطوقهم السعادة في أرجاء منزل دافئ، وعين حانية تحرس نومهم بالحب، بينما أقطع النهارات والليالي أحدث نفسي محاولة أن أستعيد كلماتها وخيال ابتسامتها ولحظات احتضارها الطويلة. كل النجاحات وأوقات الفرح كانت تمر باهتة أمامي بعد أن أصبح اسمها طيفاً في حياتي، مجرد طيف أحاول لملمته بأصابع أحلامي فيتلاشى. وكلما نظرت في المرآة، أرى وجهها معاتباً يذكرني بالدين الذي صار يطوق عنقي مثل حبل غليظ “متى ستحزنين بصورة لائقة؟ّ”. لا أعرف كيف أدخل من باب الحزن، لا أملك خطواتي، وفي صباح كل يوم، اتحايل على الحزن فأخفيه داخل ملامحي وأقفل عليه أبواب الذاكرة، يضيع المفتاح، فأقول لنفسي الجبانة؛ لا بأس، غداً.. غداً سأحزن، سأترك دموعي تتساقط ببساطة، مثل قطع زجاج مهشمة، لكن الزجاج لم يتساقط، ومازالت بقاياه تتراكم في روحي بمرور السنوات حتى استحالت إلى جبل من جليد. في واحدة من اللحظات القليلة التي كانت تفيق فيها من نوبات الألم الطويلة، سألت أمي عن الوجه الذي لم يفارقها منذ سنوات، الوجه الذي تراه في يقظتها ومنامها، الذي تشتاقه ويؤرقها غيابه، فكانت تقول وشبح ابتسامة مرسوم على وجهها الشاحب “إنها جدتك، لن أنساها ما حييت، وسيبقى وجهها يطاردني حتى آخر لحظة!”.. كانت ستقول لي؛ “سيبقى وجهي يطاردك حتى آخر لحظة”.. كانت ستقول لي هذا الكلام، لكنها ترددت قليلاً، ثم توقفت، قبل أن تعاود الإبحار في غيبوبة أبدية. كاتبة عراقية مقيمة في لندننهى الصراف

مشاركة :