في "عربة الأموات" صراع مع الحياة وللغراب طبع الإنسان بقلم: عبدالله مكسور

  • 3/25/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

في عربة الأموات صراع مع الحياة وللغراب طبع الإنسانهناك الكثير من العوالم الخفية في المجتمعات البشرية على اختلافها، وخاصة عوالم القصور التي تحاك حولها الحكايات وحتى الخرافات والأساطير عما يحدث خلف الجدران العالية لهذه القصور الفخمة، والتي قد تخفي الكثير من الألم والاستعباد والطقوس الغريبة وحتى الشاذة.العرب عبدالله مكسور [نُشر في 2017/03/25، العدد: 10582، ص(16)]أحوال المهمشين والمسحوقين في عجلة الحياة (لوحة للفنان أنس سلامة) رواية “عربة الأموات” للكاتب السوداني منصور الصويم تُثير جملة من الأسئلة عن الحياة في ظل شبكة من العلاقات المُركَّبة التي يحاول الكاتب فك نقاط الاشتباك بينها عبر بنية سردية متماسكة، ومن خلال مقطع عرضي عشوائي تم اختيارُ أبطالِه من السودانيين المقيمين في السعودية. يختار الكاتب السوداني المقيم في المملكة العربية السعودية، منصور الصويِّم، مدينة الرياض وفضاءها الواسع لتكون مسرحاً للرواية التي تحاكي أحوال المهمَّشين والمسحوقين في عجَلة الحياة. السرد المشهدي عبر 22 فصلاً امتدت بفضاء 291 صفحة، ومن خلال سرد شيِّق يستند الكاتب في روايته “عربة الأموات”، الصادرة عن دار مسكلياني في تونس، إلى مجموعة من الحكايات التي تدور على اتجاهات مختلفة بين أربعة أصدقاء من السودان؛ فضل الله، الدكتور مكي، أيمن فخري، الصادق سليمان، كل منهم يعتاش في سبيل يبتعد فيه عن خيوط أصدقائه الذين بدورِهِم يمتلكون دوائرَهُم السردية الخاصة بين مهنهم التي هي “سائق عربة الموتى، طبيب، محرر صحفي، موظَّف لديه مكانة كبيرة في أحد القصور”، تلك الدوائر التي تختلف معالجة البناء فيها، ويُشكِّل طائر الغراب جسر الربط بينها بشكل كامل، وهو ضمير الراوي الذي يعرف كل شيء، فالغراب يحمل في شخصيتِه التي قدَّمها منصور الصويِّم ثنائية الخير والشر، والغراب الذي أراده الكاتب عتبةً للرواية هو ذاتُه الذي كان نقطة النهاية فيها، وربما أراد بتشخيص الغراب وإعطائه طبائع الإنسان أن يجعل منه ظلًّا لأبطاله، أو ضميراً يوازي ضمير “الأنا” السارد العليم الذي لم يلجأ إليه الصويِّم في عمله. بُنِيَت الرواية على ثلاثة أعمدة أساسية؛ “الموت، الدين، الجنس”، مرَّر السارد من خلال هذه الأعمدة جملة من الآراء التي يحكُمُها الخوف عموماً، الخوف في الطرح والتداول، كما جاء في الرواية “الخوف من الخوف ذاته”، ويناقش في سبيل ذلك التحولات التي تطرأ على سلوك الإنسان بسبب هذه الثلاثية، فتبرز لنا هنا شخصيات نسائية مثل “الخادمة روز الأثيوبية، الممرضة آن الفلبينية، الأرملة السودانية”، وعلى صعيد الرجال مثلاً “فريد، الشيخ سعود الجديِّع، أبوالبراء السوداني”. كما برز مستوى آخر من الشخصيات التي لبِسَت عباءة الضحية مثل “الغلام متوكَّل السوداني، إلياس حارس المقبرة، الراقصة”، هذا الفرز غير المرئي بين الشخصيات يجعل السرد في مستويين، أحدُهما ظاهري تدورُ أفلاكُهُ في حكاية يسعى أبطالها للتخلِّص من كل القيود فيها، بمن فيهم الغراب، ومستوى باطني غير واضح يحكي عن الحقوق المنتَهَكة باسم الحياة. مفارقة وصدمة لا يسعى الصويِّم إلى محاكمة حالة ما، ولا يقدِّم نفسه كذلك، بل يثير جملة من الأسئلة والقضايا حول شبكات يُقرّ الجميع بوجودها وفي الوقت ذاته يتم طرح فكرة التغاضي عنها، في ثنائية تبدو مفهومة بسياق السرد الذي اعتمد تقنية مشهدية كانت مرجعيتها نقل المكان الجغرافي ليكون راسخاً باعتباره جزءاً من الحدث.الرواية بنيت على ثلاثة أعمدة أساسية؛ "الموت، الدين، الجنس" الغراب القادر على اختراق كل الأمكنة والتواجد في كل حيِّز في ذروة السرد ليُشكِّل ضابطاً للحكاية كما أراده الكاتب، ينقُل لنا بدقةٍ متناهية ما يدور في القصور المشيَّدة بعيداً عن كل المحاذير؛ حفلات المجون، انتهاك البشر، السجن في الظُلُمات، وفي الوقت ذاته يُسلِّط الضوء على الجانب الخفي من أولئكِ العرسان الذين كانت أقدارُهم تُجبِرهُم على الاستمرار في تلك اللعبة، مِن تلك الممرات والدهاليز والأقبية ينطلق السارد لتفكيك الكثير من المشكلات التي تعترض المقيمين، يختصرُ ذلك العالم كلّه بشخصيات “الصحفي أيمن فخري، الأرملة السودانية، روز الأثيوبية، الدكتور مكي، الممرضة آن الفلبينية”، كما يقدِّم نماذج لتغيُّر سلوك الإنسان كما في تنامي شخصية ” أبوالبراء السوداني” الذي بدأ موظَّفاً في موقع إلكتروني وانتهى به الحال أشلاء مبعثرةً نتيجة انفجار حزام ناسف، كان يرتديه أثناء تنفيذه عملية انتحارية في بنغازي الليبية. الرواية التي بدأت بمفارقة وجود امرأة على قيد الحياة في عربة الأموات، انتهت بصدمة، بأن تلك العربة التي اعتادت نقل البشر إلى مثواهِم الأخير، تحوَّلَت بفِعلِ خطَّةٍ مدروسة إلى عربة لنقل الأحياء الأموات، تلك الخطة التي أعادت جمع كل خيوط الحكايات بعد نضوجها إلى منتهاها، فالأزمات التي ضرَبت واقع كل الشخصيات دفَعَت بالجميع إلى البحث عن مخرجٍ قام على ثلاث نقاط رئيسية “عربة نقل الأموات، حارس المقابر اليمني الذي سيكون دليلاً بين حُدودَين، مزوِّر مستندات صومالي الجنسية تكفَّل باستخراج الأوراق المطلوبة كافة، لتحويل الأحياء الثلاثة “الدكتور مكي، روز الأثيوبية، أيمن فخري” إلى قائمة الأموات الذين سيتم نقلهم إلى قرية حدودية صغيرة بإمارة جيزان. في هذا المشهد تنتهي الرواية، رغم عدم اتِّضاح نهايات الحكاية، إلا أن المصائر المجهولة التي أرادها الكاتبُ تشيرُ بشكل ما إلى إمكانية إتمام هذا العمل في فضاءات أخرى، فالعلاقات النفسية والاجتماعية التي قدَّمَها منصور الصويِّم ضمن بنية سردية مُحكَمة لا تقتصرُ على فضاء المدينة التي جرَت بها أحداث الرواية وإنما تتعدَّى ذلك إلى جغرافيات مختلفة تحكُمُ سلوكيات الإنسان ونفسيَته ليتحوَّل إلى شخص آخر لا يُشبِهُ نفسَه.

مشاركة :