تقدمت وزارة العدل في مملكة البحرين بدعوى ضد جمعية العمل الديمقراطي «وعد»، تطالب بحلها لارتكابها مخالفات قانونية، وهي إحدى الجمعيات السياسية التي ترفع شعار الديمقراطية والدولة المدنية في أدبياتها، وتمثل أحد تلونات التيار التقدمي التنويري الذي خاض نضاله منذ كان في المنفى تحت اسم جبهة التحرير (يساري شيوعي). وبعد التأسيس، تعلن عن نفسها إحدى جمعيات «المعارضة». الممارسة العملية هي امتحان للخطاب وللتنظير وللأدبيات التي تصدعنا بها دائماً النخب السياسية منتقدة «الأداء السلطوي» والممارسات، سواء الفردية منها، أو تلك المواقف التي تتخذها الأحزاب السياسية، والتي من المفترض أنها تعبر عن أسس ومبادئ الجماعات الحزبية التي تشكلت على أساسها، والتي من المفترض أنها تنذر نفسها لخدمة تلك المبادئ والقيم التي تحفل بها خطاباتها. يفترض أن تتبدى الممارسة العملية اليومية متطابقة مع خطابها في طبيعة اختيارها لتحالفاتها، وفي طبيعة قوائمها الانتخابية، وفي مواقفها التي تتخذها مع أو ضد إجراءات أو قوانين تصدر من السلطة التشريعية، وفي موقفها من المرأة، وموقفها من الحقوق المدنية للأجانب، وموقفها من التعددية والتنوع وعدم التمييز؛ في كل تلك الامتحانات لا بد أن تكون الممارسات متطابقة مع الخطاب المثالي المتناسق مع الدولة المدنية التي تدعو لها تلك الأحزاب، بما فيها «الدينية»، إذ حتى الأحزاب الدينية تدعي في أدبياتها أنها لن تحتكر السلطة، وأنها تقبل بالتعددية، وأنها ضد التمييز، ومع الحقوق المدنية للمرأة، و... و... و... وفي البحرين، شهدنا خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، أي منذ السماح بتشكيل الأحزاب السياسية، وممارسة العمل السياسي بكل آلياته وأدواته، شهدنا درجات متفاوتة من الانفصام الشخصي بين الخطاب والممارسة، شهدنا كماً من الادعاءات التي تناقضها الممارسات، أكثرها صدمة لنا كان ممارسات التيارات التي أطلقت على نفسها «التقدمية» أو «الديمقراطية»، تماماً مثلما صدم اللبنانيون بمواقف التيار العوني (التيار الوطني الحر) الذي تحالف مع حزب ديني يدين بالولاء لإيران بلا مواربة، فتناقض بذلك التحالف مع مبادئه وقيمه التي تأسس حزبه تحت يافطاتها، كذلك فعلت «وعد»، الجمعية التي تأسست كما هو نصها الأدبي: «إننا في جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) نتمسك بمفهوم الدولة المدنية الديمقراطية، وهي الدولة الوطنية الدستورية القائمة على التعددية الحزبية سياسياً، وتنوع التيارات الفكرية، وهي على النقيض من الدولة الفئوية، بمختلف نماذجها وأشكالها المكرسة للتمييز القسري بين المواطنين، على أساس قبلي أو ديني أو مذهبي. فالدولة المدنية لا تقوم على خلط الدين بالسياسة، وهي لا تعادي الدين ولا ترفضه، بل إن الدين يعتبر جزءاً لا يتجزأ من منظومة الحياة والحريات فيها، بوصفها دولة جامعة ومعبرة عن كل مكوناتها الآيديولوجية والفكرية والسياسية والإثنية والعرقية، وترفض تسخير الدين في تحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، وعلى مبادئها الديمقراطية. كما تقتضي الدولة المدنية أن يكون الرابط الاجتماعي بين الناس مدنياً، وليس عقائدياً أو قبلياً، وأن تكون وظيفة الدولة تنظيم الحياة المشتركة، وإدارة التعايش والاختلاف، بما يمنع الصدام والفوضى، فضلاً عن احترام الحريات الفردية في الحياة العامة». وبناء على ما سبق نتساءل: أين تلك المبادئ «المدنية» من التحالف مع أحزاب دينية قائمة على أسس مذهبية ضيقة، رفض فيها الشيعي مثيله الشيعي لأن مرجعيته الدينية لا تتفق مع مرجعية مؤسسي «جمعية الوفاق»؟ كيف تعين وتمد اليد لمجموعات قائمة على أسس تخالف وتعارض مبادئك؟ أي مصداقية بقيت لتلك المبادئ؟ ثم تدعي تلك الجمعية أن من واجب الدولة، ومن حقها، أن تتدخل لوقف كل ما يخل بالأمن: «ولما كانت الوظيفة الأمنية إحدى وظائفها الأساسية، فمن حقها أيضاً التدخل لوقف كل ما يخل بالأمن العام، وتكريس مبدأ (الأمن للجميع)، وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان». ثم تقوم الجمعية ذاتها بتمجيد كل من سقط في صدام مع رجال الأمن، وتسميته بـ«الشهيد»، متناقضة مع نظامها الأساسي ومبادئها التي أعلنت عنها، مع الأخذ في الاعتبار أن من يتصادم مع الدولة، ويحمل السلاح ضدها، هم دعاة دولة دينية يقودها مرجع ديني إيراني هو في نظرهم معصوم من الخطأ! أي تناقض وانفصام في الشخصية نشهده اليوم مع تيارات تدعي التقدمية والمدنية؟! إنها تيارات تاهت وتداعت في سعيها الحثيث للحصول على شعبية أو نجومية أو مقعد انتخابي مستقبلي!! تناقض الممارسة مع الخطاب عند الجماعات الدينية في امتحان التعددية، وامتحان استحقاقات الدولة المدنية بشكل عام، نفهمه رغم أنه كان تناقضاً صارخاً، فتشكيلتهم الحزبية أول امتحان سقطوا فيه سقوطاً مدوياً؛ مؤسسوهم من مذهب واحد، بل من جزء من مذهب واحد، فالمنبر الإسلامي (إخوان) سنة لم يضموا سلفياً واحداً، وكذلك فعل التيار السلفي حين أسس حزبه السياسي، وكذلك كانت الأحزاب الشيعية، ومنها الوفاق وجمعية العمل الإسلامي، فالاثنان شيعة، وبينهما ما صنع الحداد! إنما ما السبب الذي يدفع جمعيات تدعي أنها تذيب الفوارق الدينية والعرقية والمذهبية إلى الارتماء بحضن الجماعات الدينية، غير أنها تيارات فقدت ظلها!!
مشاركة :