رجل متذمر يثور على نصف قرن من حياته فيموت مرتينفي روايته “ميتتان لرجل واحد” يُقدِّم الروائي والشاعر البرازيلي جورج أمادو قصَّة متخيَّلة عن رجل عاش في مدينة باهيا مسقط رأس الكاتب، يستحضر من خلاله أمادو النقائض التي تحكم المجتمع وسعي طبقاته للمظاهر بعيداً عن الجواهر حتى في الموت، فلسفةُ الرحيل التي تتضمن الثورة على ذلك الواقع في عباءة رجل حمَل اسمين فكانَ جواكيم سواريس دا كونيا، وكينكاس هدير الماء.العرب عبدالله مكسور [نُشر في 2017/04/03، العدد: 10591، ص(14)]حياة بأكثر من شخصية وأكثر من مصير (لوحة للفنان بسيم الريس) “حين يموت الانسان، يحظى آلياً باحترام الناس، مهما كانت الحماقات التي ارتكبها في حياته، فالموت يمحو بيد الغياب شوائب الماضي، فتشرق ذكرى العزيز منزهة عن الخطأ كإشراقة ألماس”، هكذا يصف جورج أمادو في روايته “ميتتان لرجل واحد”، يصف الواقع بتجرد كامل، محاكمة مطلقة لعقدٍ اجتماعي بائس قرر الكاتبُ الثورة عليه، فهذه الدنيا كما يراها بطل الحكاية “عالمٌ مليء بالمشكِّكين، الرافضين، مثلما هو مليء بالناس البسطاء المشدودين إلى النظام وقواعد السلوك، والوثائق المختومة، كثور يقود عربة”. الجغرافيات السردية جواكيم سواريس دا كونيا، موظّفٌ إداري في دائرة الضرائب، يعيش حياةً أرستقراطية رفقة زوجته ” أوتاسيا”، وابنته “فندا” في مدينة ساحلية تطل على بحر واسع اسمها “باهيا”، بهذه الأجواء يبدأ أمادو التعريف ببطل الحكاية المتذمر من شكل حياتِه الرتيب بعد أن كان حلم حياته أن يعيش خارج إطار القانون كمتسكِّع، متشرد يبحث عن قوت يومه فقط، لا يقدِّم أسباباً واضحة لقرار جواكيم المفاجئ للجميع لكنَّهُ يشرح باستفاضة متعة الرجل الذي صار اسمه كينكاس هدير الماء، إذاً جواكيم هو ذاته كينكاس جسداً وروحاً إلا أنه يعيش في عالمَين مُنفَصلين، الأول قضى فيه خمسين عاماً والثاني أمضى فيه ما تبقى له من سنوات متخلِّصاً من كل تفاصيل العالم الأول. هنا تبرز جغرافيات سردية خاصة في الرواية، الصادرة في نسختها العربية عن دار مسكلياني بتونس بترجمة عبدالجليل العربي، فالعالم الأول المتمثِّل في البيت يضم بين جنباتِه زوجةً متوفيَّة وابنة تشبه أمَّها وصهراً يشتغل موظفاً مالياً إلى جانب أخٍ اشتهر بالبخل وأخت متصابية تهوى الضحك بما لا يتناسب مع أجواء هذه الجغرافيا التي تتسم بالانضباط والسعي الحثيث للحفاظ على اسم العائلة وسمعتها من التلوُّث نتيجة أفعال جواكيم بعد تحوّله إلى كينكاس. أما الجغرافيا السردية الثانية فهي فضاء يدور في قاع المجتمع، ذلك القاع له عدة أعمدة في السرد تظهر تباعاً أحدُها كينكاس بينما يتوزَّعُ الآخرون على شكل ألقاب مثل “المدهون”، “العريف”، “رشيق الحركة”، “كيتاريا جاحظة العينين”، وهذا العالم يخضع أيضاً لمنظومة تتناقض بشكل قيَمي تام مع العالم الأول، وفي الوقت ذاته كل منهما يتبرأ من الآخر ويتكبَّر عليه. تدور أحاديث كثيرة حول شخصية كينكاس، قصص حدثت بالفعل وأخرى يختلقها هو ويسعى لترويجها عبر شبكته من المشرّدين فتذيع في المدينة لتكون حديث وسائل الاعلام في اليوم التالي، هذا الأمر سبّب حرجاً كبيراً لعائلته، “الجغرافيا السردية الأولى”، أراد البطل من ذلك الانتقام من نصف قرن من الزمان من خلال تحطيمه بشكل كامل، لا يرضى بالهدنة معه أو التصالح مع ذاته الأولى، أراد بذلك قتلها كاملة بكل ما فيها وإلى الأبد، هكذا يرسم أمادو واقع كينكاس الذي أراده ثورة حقيقية صافية على كل شيء.رواية تحاكم المجتمع سيناريوهات الرحيل جواكيم سواريس دا كونيا، كينكاس هدير الماء، يموت في الرواية ثلاث مرات، الأولى في ضمير عائلته وأهله وأصدقائه في العمل، حين قرر أن ينتقل بكامل إرادته من حياةٍ إلى حياة، فهو موتٌ أخلاقي لرب عائلة صالح قرر التحوُّل عن مساره فألغته العائلةُ تماماً وتجاهلت أفعاله، ذلك التجاهل دفعه لاختراع قصة موت جديدة كان شهودها الحضيض المجتمعي المحيط به، فمرر أخباراً تتعلَّقُ بسهرةٍ ماجنة انتهت برحلة بحرية قرر في ذروتها أن يُلقي نفسه في البحر، فاختار بذلك طريقة الموت المُشتهاة بنسبته، ليكون بعد ذلك الموت الطبيعي حيثُ وُجِد نائماً في سريره مُبتَسِماً بغرفته القديمة التي اختارها وطناً للمنفى الجديد الذي عاش فيه سنوات، ليس هناك من سبب واضح للموتة الثالثة سوى أنه وُجِد مصادفة مبتسماً تفوح منه رائحة الكحول. تنتهي مسيرةُ جواكيم سواريس داكونيا وكينكاس فيتنازع العالمان على جثمانه، كان لا بد هنا من خلق جسر بين العالمين فتم استحضار “صانع التماثيل” وهو رجل باحَ له كينكاس بأسماء عائلته الحقيقية في لحظة غياب عن الواقع، تبدأ في الرواية تفاصيل التجهيز لعملية الدفن، فالعائلة تريد أن تنهي ذلك بأقل الخسائر الاجتماعية، بينما ينطلق المهمَّشون في حالة استعراض مسرحي لعواطف صادقة نعيا للقائد الراحل. فلسفة الثورة في شخصية كينكاس تكمن في قدرته على هدم كل العوالم دون الالتفات إلى ما يربطه فيها وبها في الوقت ذاته، هذه حالة التصالح مع كل الأحوال وكل الظروف، فالرواية جاءت كتمرين حي على الجلوس مع الموت، وأقتبس هنا ما ورد في تقديم الرواية بقلم ناشرها شوقي العنزي “في داخل كل منا كينكاس ما مختلف عن الآخر، مثل بصمة اليد ولكننا نقدّمه قرباناً للمشترك والمتداول والمكرور، ونطمس البصمة، نغمسها في الجمر ونحن نئنُّ من أجل الصورة، لذلك فهي رواية تنتصر للحياة مقابل الموت، تنتصر للذات إزاء القوالب الجاهزة التي تحاصرها وتمنحها شكلها كل يوم، تنتصر للهامش الخلفي في وجه الواجهة الكاذبة، وتنتصر للإنسان هذا الكائن الهش وقد ظل كرة تتقاذفها الأعراف والتقاليد والعائلة والمدرسة”.
مشاركة :