الأمم المتحدة لا تطلق على ما يحدث في سوريا اسم إبادة جماعية، مثلما أنها لم تعتبر المذابح التي ارتكبت من قبل الصرب ضد مسلمي البوسنة والتي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين عملا من أعمال الإبادة.العرب سلام السعدي [نُشر في 2017/04/08، العدد: 10596، ص(8)] مع استهداف مدينة إدلب بالسلاح الكيميائي ووقوع نحو مئة ضحية من المدنيين السوريين، تعود التساؤلات مجددا عن مرتكب ذلك العمل الإرهابي الشنيع. أنصار النظام السوري وبعض المتابعين “المحايدين” يشككون في أن ينفذ نظام بشار الأسد عملا يلهب نيران العداء ضده بعد أن بدأت تخبو خلال الأشهر الأخيرة. هل يمكن لعاقل أن يفعل ذلك؟ يردد هؤلاء نافين التهمة الموجهة للنظام أو حائرين في طبيعة تكوين الدولة الأسدية ومدى الجنون الذي غرقت فيه. تكررت تلك التساؤلات قبل نحو أربعة أعوام بعد استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية والذي كاد يؤدي إلى ضربة عسكرية أميركية ضد النظام كانت لتغيّر من مجريات الحرب. ولقطع الشك باليقين، لا بد من التأكيد على أن عدة تحقيقات دولية مستقلة أجريت في عدة مناسبات استخدم فيها نظام الأسد السلاح الكيميائي خلال الأعوام الماضية، وقد خلصت جميعها إلى تأكيد مسؤولية الأسد. السؤال إذن، لماذا يواصل النظام فعل ما يبدو أنه ضد مصلحته؟ التفسير الأول يتعلق بالضعف الشديد الذي فتك بجيش النظام والذي يجبره في عدة مناسبات على استخدام السلاح الكيميائي. عندما استخدم النظام السوري السلاح الكيميائي للمرة الأولى في شهر أغسطس من العام 2013، كان في حالة تهاو سريع في أماكن متفرقة من سوريا. كانت الغوطة الشرقية قد تماسكت عسكريا، ولم يعد بوسع النظام تنفيذ اقتحامات كما كان يفعـل طيلة العـام 2012. وبصورة عـامة، شهـد هذا العام تشكيل أكبر الفصائل العسكرية للمعارضة بعد سلسلة من الاندماجات العسكـرية بين فصـائل متعددة. لـم يوقـف هذا الزخم العسكري المتصاعد إلا دخول تنظيم الدولة الإسلامية داعش على المشهد. من هذا المنطلق استخدم نظام الأسد السلاح الكيميائي في العشرات من المناسبات بحسب ناشطين. ولم تحظ حالات استهداف جبهات القتال والمواقع العسكرية بالتغطية اللازمة. كما لم يحظ استهداف مواقع سقط فيها عدد قليل من المدنيين باهتمام إعلامي كبير. يحمل هذا التحليل قدرا من الصحة. ولكن، لو كان الهدف الوحيد للنظام السوري هو دعم مواجهاته العسكري ضد المعارضة بسلاح نوعي لقصر استخدامه على المعارك العسكرية المعزولة، وتجنّب بذلك التنديد الدولي وسيناريوهات المحاسبة. يتعلق التفسير الآخر بالأهداف بعيدة المدى للنظام السوري. إذ لم تعد استراتيجية نظام بشار الأسد تقتصر على البقاء في الحكم بل على حكم بلد ذي تركيبة سكانية جديدة يعتبرها أكثر استقرارا. بهذا المعنى، يستغل نظام الأسد الحرب لإجراء تغيير ديموغرافي يجعل سوريا أكثر مواءمة لتأبيد حكم عائلة الأسد، وذلك من خلال انتهاج سياسة مزدوجة تتضمن الإبادة والتهجير الطـائفي القسري. منذ تحـول الثورة السورية إلى صراع عسكري ضد النظام، عمل الأخير على إبادة السكان في المناطق الثائرة ذات الغالبية السنيّة. سكان الأرياف على وجه خاص نالوا القسط الأكبر من المذبحة. عرّفت الأمم المتحدة الإبادة الجماعية في العام 1948 على أنها عمل يرتكب بقصد التدمير، سواء الشامل أو الجزئي، لمجموعة قومية أو دينية أو عرقية. وأضافت أن الإبادة يمكن أن تتم سواء عبر القتل المباشر أو باستهداف أماكن عيش تلك المجموعة ومصادر رزقها ودفعها للتهجير. كما تتيح الأمم المتحدة الرد العسكري على الإبادة الجماعية سواء ارتكبت في زمن السلم أو الحرب. لكن الأمم المتحدة لا تطلق على ما يحدث في سوريا اسم إبادة جماعية، مثلما أنها لم تعتبر المذابح التي ارتكبت من قبل الصرب ضد مسلمي البوسنة والتي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين عملا من أعمال الإبادة. تقصر الأمم المتحدة تعريفها على الجرائم التي تحدث في فترة قصيرة وتذهب ضحيتها أعداد كبيرة جدا من البشر مثل الهولوكوست في ألمانيا وإبادة الأرمن في تركيا. ويمثل ذلك خللا في التعريف الذي وضعته الأمم المتحدة، إذ أنه لا يحدد رقما معينا للضحايا. حدثت المجزرة السورية على مدى سبع سنوات وامتد نطاقها ليشمل الآلاف من المواقع التي تتضمن البلدات الصغيرة والقرى والمدن وحتى السجون في سوريا. الأهم أن الإبادة التي شنها النظام السوري تضمنت أيضا سياسة التهجير القسري للسكان وذلك بعد استهداف جميع المدن والبلدات المحررة بالغارات اليومية لجعل الحياة مستحيلة. كما مارس النظام سياسة حصار مئات الآلاف من السوريين ومنع الغذاء والدواء عنهم لدفعهم للمغادرة. المفارقة أن عمليات التهجير القسري حدثت خلال العامين الماضيين بإشراف الأمم المتحدة. تلك السياسات لا تتضمن قتلا مباشرا ولكنها تؤدي إلى نفس النتيجة التي حددها تعريف الأمم المتحدة للإبادة: التدمير الجزئي أو الكلي لمجموعة دينية أو عرقية أو إثنية. يدعو العديد من الخبراء إلى تعريف جديد لجرائم الإبادة يكون أكثر دقة وشاملا للمذابح الصغيرة المتفرقة، فضلا عن سياسيات إخضاع السكان بالوسائل الاقتصادية لدفعهم للمغادرة. ولكن تعريف الأمم المتحدة الحالي يمكّن قادة العالم من التملص ممّا يحدث في بلدان مختلفة، حيث تتواصل الإبادة والتهجير القسري. كاتب فلسطيني سوريسلام السعدي
مشاركة :