الفنان التشكيلي العراقي كان سباقا في استلهام الحرف العربي جماليا وأدرك مبكّرا حجم الأثر السحري الذي يتركه ذلك الحرف في عيون مَن لا يفكونه.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/04/09، العدد: 10597، ص(10)]جميل حمودي حداثوي قبل الحداثة لندن - صفة رسام وحدها لا تفيه حقه ولن ترضيه. يمكنه أن يكون أكثر من ذلك دائما. لقد جرّب أن يكون شاعرا بالفرنسية كما كان ناشرا وصحافيا وأيضا كان ناقدا فنيا بل ومفكرا جماليا وفي بدء حياته الفنية كان نحاتا. الطالع من الليالي أراني ذات مرة صورة تجمعه بالفنان الفرنسي مارسيل دوشان في مرسمه. يمكنه أن يخبرك أنهما كانا صديقين وما عليك سوى أن تصدقه. فالرجل الذي كتب شعرا بالفرنسية نهاية أربعينات القرن الماضي كان عارفا بتحولات الفن الحديث في باريس على الأقل. لذلك من المقبول أن يكون قد اخترق مجتمع النخبة الثقافية الفرنسية. دليله في ذلك ما كُتب عن تجربته الفنية في الصحافة الفرنسية من قبل نقاد فن فرنسيين. كان سحر شخصيته ينبعث يومها من عراقيته. جزء من لعبته الفنية التي كان يتقنها. فالرسام الذي كان سباقا في استلهام الحرف العربي جماليا أدرك مبكّرا حجم الأثر السحري الذي يتركه ذلك الحرف في عيون مَن لا يفكونه. فهو بالنسبة إليهم صورة للغز قادم من الشرق المتخيل. من جهة أخرى كانت بغداد كما يقدمها إلى الآخرين من أجل إبهارهم بالمدينة التي أتى منها عاصمة ألف ليلة وليلة. لقد اعتبر نفسه يومها كائنا خياليا طلع لتوّه من كتاب الحكايات. كان عراقيا في باريس وفرنسيا في بغداد. ليس من السهل القبض على جميل حمودي وهو واحد من رواد الفن الحديث في العراق في شخصية واحدة. بيسر يمكن الحكم بأنه الرجل الذي سبق جميع مجايليه إلى الحداثة. قبل أن يحضر جبرا إبراهيم جبرا (الفلسطيني، العراقي لاحقا) إلى بغداد ويستقر فيها كان حمودي قد وضع مفهوم الحداثة الفنية قيد التداول بين المثقفين. يكفي برهاناً على ذلك أن مجلته التي أصدر أول أعدادها عام 1945 كانت بعنوان “الفكر الحديث". ولد حمودي في بغداد عام 1924. وقبل أن يكمل دراسته الثانوية كان قد أنجز مجموعة من التماثيل التي تمثل شخصيات تاريخية وهو ما مهد لقبوله عضواً في جمعية أصدقاء الفن عام 1942 التي ضمت أوائل الرسامين العراقيين وفي مقدمتهم عبدالقادر الرسام أول من مارس الرسم من العراقيين في العصر الحديث. حمودي الحالم بتغيير الفن كما الحياة عام 1945 أنهى دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد وهي السنة نفسها التي أصدر فيها مجلته “الفكر الحديث”، وهي أولى المجلات العراقية التي تعنى بالنظريات والمفاهيم والأساليب وطرق التفكير المرتبطة بالحداثة. بعد سنة سيكون حمودي في باريس مبعوثا لدراسة الفن. اختراق الآفاق درس الرسم في أكاديمية جوليان وتاريخ الفن في مدرسة اللوفر. عام 1949 اشترك في صالون الحقائق الجديدة إلى جانب هارتونغ وهيربان وشوفير وكتز وبيوتي. أقيم ذلك المعرض في متحف الفن الحديث بباريس. أقام حمودي معرضه الشخصي الأول بباريس عام 1950. عام 1955 صدر كتابه الشعري الأول “أحلام من الشرق” بالفرنسية وبعد عامين أصدر كتابه الشعري الثاني “آفاق”. أسس عام 1958 مجلة عشتار الشرق والغرب. كان شعار المجلة “من أجل إيجاد تفاهم أحسن بين الشرق والغرب”. في ذلك العام بدأ بنشر سلسلة من الكتب الفنية مذيلة باسم دار عشتار. وباسم عشتار أيضا نظّم عام 1960 أمسية مسرحية في حدائق المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية بباريس. يعتبر اشتراكه بمؤتمر روما عام 1961 الذي نظمته منظمة القلم الدولي عن الأدب العربي إلى جانب بدر شاكر السياب وجبرا إبراهيم جبرا حدثا مهما في حياته. حين عودته إلى بغداد بداية ستينات القرن الماضي استلم إدارة بناية المتحف الوطني للفن الحديث التي أهدتها مؤسسة كولبنكيان إلى العراق وتقع في الباب الشرقي. ما بين عامي 1984 و1987 عاد إلى باريس مديرا للمركز الثقافي العراقي حيث أقام معرضا شخصيا في المتحف الوطني للفنون الأفريقية والمحيطية ومنحته وزارة الثقافة الفرنسية وسام الفنون والآداب تقديرا لمعرضه. بعدها أقيم له معرض كبير في بناية اليونسكو بباريس. بعد عودته الثانية إلى بغداد أسس قاعة إينانا التي سعى من خلالها إلى التبشير بنظريته عن استلهام الحرف جماليا، وهو الشعار الذي ابتكره شخصيا من أجل تجمع البعد الواحد الذي اشترك في أول معارضه ببغداد عام 1972. عام 2003 توفي جميل حمودي ببغداد. كانت مديحة عمر قد أقامت معرضا لأعمالها في واشنطن عام 1949 استلهمت فيه أشكال الحروف العربية. لقد وظفت عمر الحروف من أجل المعنى فكانت رسومها أشبه بالرسوم التوضيحية. ما فعله جميل حمودي في معرضه الذي أقامه في باريس بعد سنة كان مختلفا تماما. كان الفنان الذي تعرّف على أصول الفن التجريدي قد استلهم الحرف العربي جماليا بطريقة فنية خالصة وضعته في موضع الريادة الفنية لتيار فني سيشهد بعد عقدين من الزمن انتشارا كبيرا في العالم العربي هو التيار الحروفي. لا يُخفى هنا التأثير الذي مارسه اكتشاف هنري ماسون للحرف العربي بالرغم من أن ماسون كان رساما سرياليا.حمودي يستوحي الحياة من جمالية الحرف العربي وبالرغم من ريادته التاريخية فإن تجارب حروفية عربية أخرى قد تقدمت على تجربته التي ظلت تراوح في مكانها الأول من غير أن تتطور أسلوبيا. وكما يبدو فإن شيئا من تأثير حمودي لم يظهر في تجارب الآخرين باستثناء تأثيره الطاغي والمباشر على رسوم ابنته عشتار التي ظلت تدور في فلكه. ما قدمه الحروفيون العرب وبالأخص العراقي شاكر حسن آل سعيد والسوري محمود حماد والمصري حامد عبدالله كان شيئا مختلفا عمّا كان حمودي قد قدمه في مجال البحث الحروفي. لقد شحبت تجربة الفنان الرائد مقارنة مع فتوحات الحروفيين الآخرين الجمالية. وهو ما أدى بجميل حمودي إلى الذهاب إلى النسيان قبل وفاته. حدث قد لا يتناسب مع حجم طموحات الشاب الذي ذهب إلى باريس حاملا خيال الليالي العربية وعاد إلى بغداد محمولا على أجنحة فتوحاته الشعرية والفنية. الفنان الظاهرة هل كان جميل حمودي ظاهرة فريدة من نوعها في الحياة الثقافية العراقية؟ كان من الممكن أن يكون كذلك لو أنه ظهر بأفكاره الباريسية في خمسينات القرن العشرين غير أن تأخره في العودة إلى بغداد حتى مطلع الستينات من نفس القرن أفقد حضوره الفكري طابعه الطليعي. كانت الحداثة قد سبقته إلى بغداد ولم يعد ما يقوله مفاجئا. أما حضوره الفني فقد كان محدودا. فرائد مثله لا يمكن أن يُقاس حضوره بما ينجزه شخصيا بل وأيضا بتأثيراته وهي غير موجودة في حالته. كان حمودي أشبه بالشبح يوم تعرفت عليه في التسعينات من القرن العشرين. لم يكن لديه ما يرويه سوى سيرة الشاب المتمرد، المتطلع إلى المعرفة، الشغوف بالأفكار الجديدة، الحالم بتغيير الفن كما الحياة غير أن موهبته الفنية لم تكن بمستوى أحلامه. كانت المسافة كبيرة بين ما أنجزه حمودي على مستوى الرسم وبين ما حلم به. كان حالما كبيرا غير أنه في الرسم لم يكن كذلك. وهو ما جعله يفشل في الوصول إلى أحلامه. لقد سبقته الحياة الثقافية مثلما سبقه الفن في بلاده. لذلك اكتفى في التلويح بماضيه يوم كان صديقا لدوشان وبيكابيا وماسون وسواهم من رموز الحداثة الأوروبية. يوم غادر حمودي بغداد كان متقدما على سواه بأفكاره الحداثوية غير أنه لم يكن كذلك حين عاد إليها، بالرغم من أنه كان أكثر المبعوثين العراقيين امتزاجا بالحياة الثقافية الباريسية. لقد خانته الموهبة.
مشاركة :