لقد أضيفت المسائل الخاصة في انعدام الكياسة إلى الحديث بصوت عال في الهواتف بين الآخرين، وكأن التكنولوجيا كتجربة حية للإنسانية زادت الإنسان غباء.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/04/10، العدد: 10598، ص(24)] تكاد الوجوه تتحدث مع بعضها عند انتظار القطار، الصمت جزء من تقاليد الانتظار مثلما هو معبّر عن الكياسة، لأن الثرثرة بين آخرين لا تعرفهم درجة منحدرة من سوء السلوك الذي أصابتنا به الهواتف المحمولة، قد يكون مفضلا أن تُجامل الآخرين في جوارك بكلمة أو اثنتين، لكن عليك أن تتقن فن الانشغال بنفسك وعدم مراقبة الآخرين إلى حين وصول القطار. ما حدث بجواري جعلني أعود إلى حكمة تعلّم الصمت، فكلنا نتقن الكلام، لكن الصمت فن لا يجيده الإنسان بسهولة مثلما يصعب تعلمه. قَدمتْ سيدتان في العقد السابع من عمريهما وهما تتكلمان، ولسوء الحظ وقفتا بجواري دون أن تتوقفا عن الكلام، وبما أنهما تتكلمان بصوت عال تعرّفت على كلمات إسبانية في حديثيهما الذي لا يبدو أنه جدل ولا أنه وديّ، بل حديث يمكن وصفه من دون تردد بالمهلك للدماغ! لم تتوقف السيدتان عن الكلام خلال سبع دقائق حتى وصول القطار، وليس هذا ذا تأثير إذا ما قيس بأن السيدتين تتكلمان في وقت واحد من دون توقف! كان أمرا مربكا أكبر بكثير من أنه مثير للإزعاج، بل عصيّ على التفسير، عمّ تتكلمان؟ هذا ليس شأننا، لكن أن تتكلما في وقت واحد وبشكل مستمر وبصوت مسموع للمسافرين المنتظرين قدوم القطار، أمر صعب التفسير حقا. أعتقد أن الجميع تساءل مثلما تساءلت مع نفسي، كيف لهما فهم ما تودّ إحداهما إيصاله إلى الأخرى إذا كانتا تتكلمان في وقت واحد؟ مَن تتكلم ومَن تصغي؟ أهمية هذا السؤال طغى في ذهني على الإزعاج الذي تسببت به السيدتان في حديثيهما المفتقر إلى الكياسة المناسبة لعمريهما. صعوبة تعلم فن الصمت مرتبطة بلا أدنى شك بوعي الإنسان وقدرته على فهم واحترام المحيط، فلا أكثر فظاظة من تحدث زوجين أو صديقين بصوت عال وفي مسائل شخصية بين آخرين لا يعرفونهم! وتتجسد الفظاظة في أقصى صورها بما هو شائع بيننا اليوم في الشارع والأسواق والحافلة والمقهى والمطعم والمسجد والمضيف… لأشخاص يتحدثون بالهاتف في أمورهم الشخصية وبصوت عال. لقد أضيفت المسائل الخاصة في انعدام الكياسة إلى الحديث بصوت عال في الهواتف بين الآخرين، وكأن التكنولوجيا كتجربة حية للإنسانية زادت الإنسان غباء، وفرضت على الفلاسفة والحكماء إعادة كتابة مدوّنة القيم والسلوك الحميدة. لم أفهم كلام السيدتين اللجوجتين بالحديث المزعج، لكن طريقة أن يتحدث اثنان في وقت واحد بدت لي مستلة من غياب فكرة فن الحوار بيننا، لأننا لا نريد مسبقا أن نفهم الآخرين، وهذا ما جسدته برامجنا التلفزيونية الحوارية؛ إنها تمثل اللاحوار في أقصى صوره! كرم نعمة
مشاركة :