معضلة السياسة النقدية في العراق

  • 5/15/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تشكل إيرادات النفط المقومة بالدولار مصدراً أساساً إذا لم نقل وحيداً في تحديد قدرة العراق على تمويل الطلب المحلي على العملة الأجنبية. ولأنَّ موارد النفط هي ملك عام في دولة يمكن اعتبارها ريعية بالكامل، أي تعتمد على موارد بيع النفط في مجموع إيراداتها وبالتالي في قدرتها على الإنفاق، أدى تحسن موارد النفط بعد رفع الحصار الاقتصادي عن العراق تزامناً مع الاحتلال في 2003، إلى زيادة كبيرة في حجم الإنفاق الحكومي الذي ارتفع من 31 تريليون دينار (26 بليون دولار) في 2004 إلى أكثر من 100 تريليون في السنوات الأخيرة. ولأنَّ الإنفاق الحكومي كان معظمه استهلاكياً وحتى الذي خصص منه للاستثمار لم يكن يصرف عليه، رفعت زيادة الإنفاق الحكومي الاستهلاك بشقيه العام والخاص، وبسبب ضعف القاعدة الإنتاجية في العراق لأسباب عدة كان السبيل الوحيد لمواجهة الزيادة في الاستهلاك هو الاستيراد. ولأن البنك المركزي العراقي، هو الجهة الوحيدة المخولة إصدار العملة المحلية وهو في الوقت ذاته بنك الدولة، تودع وزارة المال ما تتسلمه من عملة أجنبية من بيع النفط لديه، وبذلك يتسلم البنك المركزي العملة الأجنبية من وزارة المال ويضع في حسابها عنده عملة محلية يتم إنفاقها كلما أصدرت الوزارة أمراً بالاتفاق. وبسبب الوفرة في موارد النفط في السنوات التي أعقبت الاحتلال وحتى عام 2014، لم يواجه العراق مشكلة في توفير العملة الأجنبية لتمويل الاستيراد كما لم تحتَج الحكومة إلى الاقتراض من البنك المركزي، خصوصاً أن قانون البنك الجديد الذي صدر بعد الاحتلال يمنع استدانة الحكومة من البنك لتمويل إنفاقها. لكن المشكلات الحقيقية للاقتصاد العراقي مثل الإسراف في الإنفاق الاستهلاكي وإهمال الاستثمار والقطاعات الإنتاجية عدا النفط وتشريع أبواب الاستيراد على المنافذ كافة، ما قتل الصناعات المحلية حتى البسيطة منها وإنشاء أكثر من خمسين مصرفاً خاصاً تحوم حول جدواها الكثير من الشكوك وطبيعة أنشطتها الكثير من الاتهامات، (والتي لم تأخذ الاهتمام اللازم من السلطتين التشريعية والتنفيذية إذ كانت تغطي عليها موارد النفط الوفيرة)، كلها برزت على السطح بعد الانخفاض الكبير في أسعار النفط العالمية في منتصف 2014، وبالتالي انخفاض حجم الإيرادات الوحيدة تقريباً للحكومة وهي إيرادات النفط، وكأن ما حصل كان الصدمة اللازمة لتوعية الحكومة إلى ما تم اقترافه بحق الاقتصاد العراقي على مدى إحدى عشرة سنة. وبدأت منذ تلك الفترة الاقتراحات والتنظيرات التي تطالب الحكومة بالاهتمام بالمشاريع الإنتاجية المحلية وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، من خلال منحها القروض الميسرة ومراقبة نشاطات المصارف الخاصة خصوصاً في ما يتعلق بتصرفها بالعملة الأجنبية التي تشتريها من مزاد العملة، وعدم ترك المصارف الحكومية تستحوذ على معظم الودائع وتشجيع القطاع الخاص على زيادة التعامل مع المصارف خصوصاً الخاصة منها، وضرورة تمسك البنك المركزي بقانونه الذي يمنع إقراض الحكومة، مع اعتقاد أن هذه المقترحات يمكن وضعها موضع التنفيذ بمجرد صدور قرارات رسمية بها. إن البنك المركزي الذي يؤدي في العادة دوراً مهماً في وضع السياسات الاقتصادية الناجحة وتنفيذها، من خلال دوره في وضع السياسة النقدية الملائمة، يمكن اعتباره في وضع لا يحسد عليه في ظل الظروف الحالية في العراق. فالمصارف الخاصة لم تنشأ كمصارف بالمعنى الحقيقي، إنما منافذ تسيطر عليها بعض الجهات السياسية المتنفذة تحصل من خلالها من مزاد العملة على عملة أجنبية ليس فقط لأغراض الاستيراد وإنما لأغراض أخرى أيضاً. ويمنع النفوذ السياسي لأصحاب هذه المصارف من رقابة البنك المركزي على أنشطتها أو على اتخاذ سياسات لتصويب هذه الأنشطة، وهذا هو أحد الأسباب التي تمنع البنك المركزي من ربط الاستيراد بفتح الاعتمادات المستندية بدلاً من الوضع الحالي. كما أنَّ ضعف ثقة الأفراد بالجهاز المصرفي في ظروف أمنية وسياسية صعبة يدفعهم أما إلى الابتعاد عن التعامل مع المصارف ككل أو على الأقل عدم التعامل مع المصارف الخاصة وهو أمر لا يستطيع البنك المركزي ان يعمل شيئاً لمعالجته لأن التعامل مع المصارف يقوم على الثقة والأخيرة لا تفرض فرضاً. أما عن ضرورة التزام البنك المركزي قانونه من حيث الامتناع عن إقراض الحكومة، فهو أمر صعب التحقيق في ظروف العراق الحالية. ففي دولة ريعية تعتمد في إيراداتها بالكامل على صادرات النفط، من الصعوبة إيجاد بدائل عنه في حال انخفاض عائدات الصادرات النفطية، كذلك صعوبة الاقتراض الداخلي والخارجي لعوامل تتعلق بالثقة وارتفاع الكلفة، وهنا لا يعود أمام البنك المركزي إلّا أن يقوم هو نفسه بإقراض الحكومة، فسلطة الاحتلال التي وضعت قانون البنك المركزي ونصت فيه على عدم جواز إقراض الحكومة، لم تهيىء الوضع السياسي والاقتصادي الملائم لالتزام هذا النص.

مشاركة :