حياتنا العربية الراهنة لا تحتمل أكاديمياً منعزلا يعرف ما قالته الكتب ويلقن طلابه مضمونها ويدير ظهره للحياة وكأنه لا دخل له في مصير البشر.العرب أحمد برقاوي [نُشر في 2017/04/18، العدد: 10606، ص(14)] يسأل سقراط هيبياس في محاورة هيبياس الأكبر لأفلاطون “لكن قل لي يا هيبياس، ما السبب الممكن الذي يجعل أولئك القدماء المشهورين بحكمتهم، أو يجعل أغلبهم مثل: بيتاكوس وبيأس وطاليس الميلي ولاحقيهم حتى أناكساغوراس، ينعزلون بعيدا عن قضايا العامة؟”. فيجيب هيبياس “أي سبب تريده يا سقراط، إن لم يكن عجزهم وعدم امتلاكهم من الذكاء ما يؤهلهم للاشتغال في قضايا المدنية والقضايا العامة معاً”. (أفلاطون- هيبياس الأكبر-ترجمة علي نجيب إبراهيم) يعود هذا السؤال إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وهناك من يعتقد بأن هذه المحاورة قد كُتبت سنة 339 ق.م. ما الذي يحملنا على طرح السؤال الأفلاطوني مرة أخرى حول علاقة الكاتب بالشأن العام بعد ألفي وخمس مئة سنة على طرحه من قبل أفلاطون على لسان سقراط؟ إنه الحالة نفسها التي نعيشها اليوم والتي نشهد فيها فرار بعض الكتاب من مشكلات الحياة. نعرف الكاتب بأنه ابن الحياة. ونقصد بالحياة هنا نمط وجود الإنسان في آماله وصراعاته وتعبيراته وآلامه وفرحه. إن الكاتب بوصفه ابن الحياة هذه يعيش الوجود بكل تعيناته ويعبر عن هذه التعينات المعيشة -وهو أحد أشكالها- بالأدب والفن والفكر وكل أصناف التعبير الممكنة. هذه التعبيرات بكل ما تنطوي عليه من عناصر الإبداع هي في نهاية الأمر موقف؛ موقف الكاتب من الحياة. والحق أننا ونحن نعيش انفجار الحياة بكل ما تنطوي عليه من تراجيديا وكوميديا ودراما، نجد جمهور الدكاترة الأكاديميين وبخاصة في العلوم الإنسانية وكأن ليس لهم علاقة بهذا الانفجار وما يولده من إمكانيات المستقبل. المثقف الأكاديمي الفقير، الذي هو أشبه بخزان معلومات؛ أشبه بتقني، من دون أن يحوّل معرفته إلى أساس لقول جديد في الشأن العام، هذا التقنيّ الأكاديميّ، على ضرورته في الجامعة، ليس ابناً للحياة، فيما المثقف الذي توافر على معرفة واستطاع أن يجعل من المعرفة أساساً لقول جديد؛ قول في العالم المعيش، هو الذي ينتمي إلى الحياة. أن أكون مثقفاً ينتمي إلى الحياة ليس تقليلا من شأن الأكاديمي، بل إن إشهار القلم في هذه الشروط بخاصة هو امتثال لحاجة الحياة إلى رجل المعرفة والعلم، وأنا هنا استخدم مفهوم الحياة بالمعنى الشامل للكلمة التي تحتاج إلى الخطاب السياسيّ، الفكري، المجتمعي، إلى الشعر، الأدب، وفلسفة المستقبل والمشروع. وهذا هو الذي يحقق وحدة الأكاديميّ والمثقف العضويّ معاً. إن حياتنا العربية الراهنة لا تحتمل أكاديمياً منعزلا يعرف ما قالته الكتب ويلقن طلابه مضمونها ويدير ظهره للحياة وكأنه لا دخل له في مصير البشر. إن عالماً نعيش فيه كل أشكال المشكلات المرتبطة بالوجود والحياة من الموت إلى فقدان الذات وموت الأنا أو غيابها، إلى الكفاح من أجل تحقيق الكرامة الفردية، إلى ضرورة تحويل العلم إلى وعي علمي، إن عالماً كهذا يحتاج إلى ذلك المثقف المندرج في هذه الهموم كلها وليس إلى أكاديمي فرحان بشهادته العلمية ولقبه يعيش داخل أسوار فاقداً علاقته بالحياة. هل تساعدنا إجابة هيبياس السابقة عن سؤال سقراط في فهم عزوف الأكاديمي هذا؟ أتراه هو العجز والغباء؟ أم هو الخوف من تبعات الموقف؟ أم هو انتماء إلى الخراب الذي يجب تكنيسه؟ ربما يكون الجواب هو هذا كله. كاتب فلسطيني مقيم في الإماراتأحمد برقاوي
مشاركة :