مسامحة النفس والصفح عنها ليسا بالأمر الهيّن كما قد يعتقد البعض، فالشعور بالذنب والعداء والبغض نحو الذات بسبب الإتيان بفعل يتسم بالقسوة تجاه الآخرين وليس له ما يبرره، لا يمكن أن ينتقل بصاحبه بسهولة وسلاسة من مرحلة الخجل إلى مرحلة مسامحة النفس والعفو عنها. نرتكب الكثير من الأخطاء في حياتنا اليومية بفعل ضغوط العمل وتسارع وتيرة الحياة نفسها أو بسبب وقوعنا ضحية لإساءة الآخرين، ولهذا طالما نوجه ثقل غضبنا نحو الآخرين الأضعف في الحلقة وغالبا ما يكون هؤلاء هم الأطفال أو كبار السن. فبعض الآباء الذين يتسم سلوكهم بالعدوانية يلجأون إلى ضرب أبنائهم وإيذائهم نفسيا، وبعض الأمهات ينشغلن بوظيفتهن ويهملن صغارهن فيشعرن بالفشل والتقصير، وكلا الطرفين يشعر بالذنب والخجل مباشرة بعد ارتكابه القسوة تجاه الآخرين، لكن من النادر أن يبادر أحدهم فيسامح نفسه أو يغفر لها أو حتى يجد لها الأعذار في ذلك، فلماذا نعجز عن مسامحة أنفسنا؟ وترى شوبا سرينيفاسان، أستاذة علم النفس السريري في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا الأميركية، أن الخضوع بشكل دائم إلى لوم الذات واستعادة وتذكّر الفعل الخاطئ، هما أمران في أشد القسوة، فإذا كان عدم مسامحة الآخرين أمرا غير مبرر أحيانا، فإن عدم الغفران للذات أمر أشدّ قسوة، فهو يعمق شعورنا بالذنب والخجل، حيث يؤدي إلى تفاقم المشاعر السلبية ويمثل أرضا خصبة للعديد من الأمراض النفسية وحتى الجسدية.نرتكب الكثير من الأخطاء بفعل ضغوط العمل وتسارع وتيرة الحياة أو بسبب وقوعنا ضحية لإساءة الآخرين والخطأ أمر وارد لدى الجميع، مهما كان سعيهم الحقيقي والصادق لتجنبه؛ فنحن نخطئ أحيانا في حق الآخرين دون قصد ترافقه أيضا سلسلة طويلة من مشاعر الخجل والأسف، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فالانشغال بالعمل يحرمنا من مشاركة أطفالنا فعالياتهم الرياضية وحفلات التخرج في المدرسة. كما أن الانغماس في الحياة الأسرية يجعلنا مقصّرين بحق أقربائنا من كبار السن، خاصة الأم والأب، في حين تبقى بعض الأمهات حبيسات حياة أبنائهن وحبيسات جدران المنزل الأربعة وتلغي حياتهن الشخصية بصورة مطلقة خوفا من التقصير في أعمال المنزل ورعاية الأبناء، بل خوفا من مشاعر التأنيب والذنب والخجل، وهي مشاعر تتعدى في قسوتها، من وجهة نظر البعض، خسارة حرية شخصية أو متعة بريئة عابرة، فهل يتعين علينا أن نصغي لصوت تأنيب الضمير والشعور بالخجل، وهل يتطلب الأمر أن نؤنب أنفسنا باستمرار بصورة يصبح معها الرضا عن النفس ومسامحتها فعلا مرفوضا؟ ويتسبّب تبني السلوك الصارم مع النفس في قتل الإحساس بمتعة الإنجاز ومتعة الحياة نفسها، وهي التي تُمتع الفرد من مسامحة نفسه على أخطاء بعضها يبدو تافها جدا، وهذا السلوك غير السوي الذي يتسم صاحبه بتدني مستوى احترام الذات وتداعي الثقة بالنفس يؤدي في الغالب إلى شعور مرير باحتقار الذات وهي المرحلة الأكثر خطورة في سلسلة التأنيب. وعلى الرغم من أن نقد الذات أمر شائع، إلا أن معاقبة النفس مرارا لارتكابها الخطأ في حق الآخرين قد تضعف من الأداء العام للأفراد، وتؤدي إلى التعامل السلبي مع الآخرين بصورة قد تزيد الأمور سوءا. أما إذا اتخذ المرء قرارا بوجوب الصفح عن نفسه، فلا يكفي أن يقول هذا الأمر لنفسه؛ فالصفح عن الذات هو ممارسة عملية لا تكتفي بالنية الطيبة، بمعنى محاولة القيام بأي شيء من شأنه أن يقوّم الخطأ الذي ارتكبناه من خلال تعويض الآخرين عن سلوكنا غير المناسب معهم بعمل مناسب أو حتى بكلمات رقيقة تمسح عن أرواحهم الشعور بالإساءة، أو ببساطة، يمكننا أن نسامح الآخرين على إساءتهم لنا كجزء من تطهير الذات على إساءة ارتكبناها نحن في حق الغير. وهناك نوع مزيف من الصفح عن الذات، وهو ما يسمّى بالصفح الهامشي أو السطحي؛ ومعه قد تستمر مشاعر الغضب تجاه الشخص الذي ارتكبنا بحقه الخطأ، مشاعر قد تؤدي بنا إلى محاولة تبرير لأخطائنا وإظهار مسامحة كاذبة للنفس لمجرد التخلص من الشعور بالذنب. ومن ناحية أخرى، فإن نجاح الفرد في الصفح عن نفسه لا يعني بالضرورة أن آثار القسوة التي تركتها أفعالنا على الآخرين ستزول بسهولة، أو أنهم سيغفرون لنا هفواتنا في حقهم مهما كانت بسيطة أو معقدة، كما لا يعني هذا أننا سنستعيد مكانتنا في قلوب الآخرين ونتوقع أن يقابلونا بابتسامات وترحيب كالمعتاد. ومع ذلك، فإن الصفح عن الذات هو ببساطة إعادة لإقامة علاقة سوية معها، وهي عودة موفقة لحب الذات، إذا ما تم استثمارها بصورة صحيحة وسليمة.
مشاركة :