عرضت قناة الـ(BBC) العربية في برنامجها (عن قرب) مساء الثلاثاء 14/7/1438هـ، الموافق 11/4/2017م، فيلماً وثائقياً بعنوان (وداعاً حلب)، أعادت عرضه صباح الاثنين 20/7/1438هـ، الموافق 17/4/2017م. استعرضت فيه الأيام الأخيرة للثوار ومغادرتهم مدينة حلب مع آخر دفعة من المدنيين، الذين كانوا محاصرين بين النيران، محرومين من أبسط مقومات الحياة. صحيح، ربما يكون معظمنا قد شاهد كثيراً من محتويات الفيلم أثناء عرض نشرات الأخبار في حينها، إلا أن الفيلم ربط تلك الأحداث في تسلسل أشبه ما يكون بأفلام هوليوود؛ مجسِّداً تلك المعاناة المفجعة للأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، الذين خرجوا من مخابئ الحصار بوجوه شاحبة وأجساد نحيلة وهيئة مبعثرة، و هم يركضون يمنة ويسرة، تحت أزيز الطائرات ودوي البراميل المتفجرة، التي يرتفع لهيبها كالبركان، فيدمر كل شيء حوله، بحثاً عن طريق آمن يقودهم إلى المعبر الوحيد الذي حدَّده النظام (معبر الراموسة) لمغادرتهم مدينة حلب، تحت زخَّات الرصاص المنهمر كالسيل الدافق من كل ناحية، من بنادق جيش النظام و مرتزقته ومناصريه من إيران والعراق ولبنان من مقاتلي (حزب الله). كان شيئاً حقاً أغرب من الخيال، بالكاد استجمع أولئك المدنيون المعذبون في الأرض قواهم الخائرة، بين مصدق ومكذب، يركضون بين الجثث التي ما تزال منثورة هنا وهناك، مروراً بمجموعة من الجرحى في مستشفى ميداني، منومين على الأرض، مكومين فوق بعضهم البعض، دون حتى قطرة واحدة من الماء يروون بها الظمأ، فضلاً عن أدنى نوع من عناية طبية.. بينهم من هو في الرمق الأخير، كأني به يستعجل الموت بسبب ما يجده من ألم وعذاب وإهمال وحرمان، حتى من قطرات ماء يبل بها ريقه؛ وثانٍ يتحدث عن رائحة جروحه المتعفنة التي أزكمت أنفه؛ وثالث يتحدث عن شظايا في بطنه، ورابع يتمنى من يطلق عليه (رصاصة الرَّحمة) ليخلصه من هذا العذاب؛ فضلاً عمَّا يجدونه من معاناة نفسية رهيبة، بسبب الهزيمة التي لحقت بهم نتيجة تشرذم الثوار وتحزبهم، لدرجة حوَّلت بنادقهم تجاه صدور بعضهم البعض، بدلاً من اصطفافهم للخلاص من الجَّلاد.. حالهم حال جامعة الدول العربية؛ ناهيك عن جهلهم بمصير أسرتهم. أقول، كان أولئك المغلوبون على أمرهم يركضون في فوضى أشبه ما تكون بما يجده أحدنا في خياله من تصور ليوم البعث والنشور؛ الكل يقول: نفسي.. نفسي، طلباً للنجاة؛ حتى الحيوانات من قطط وكلاب وطيور وأغنام، ظهرت هائمة على وجهها في ذهول تام يجسد مدى المأساة، يعجز الإنسان معه عن التعبير والكلام؛ بعدما انشغل أصحابها عنها بنفسهم.. غير أن أكثر ما اعتصر قلبي، هو ظهور أطفال صغار في الفيلم، تحول بعضهم إلى جلد على عظم بسبب التجويع والحصار، الذي حرمهم من كل شيء، واغتال فرح طفولتهم، في استهتار غير مسبوق بقيمة الإنسان وقدره عند خالقه. ظهر أولئك الأطفال في مشهد محزن، يقطِّع نياط القلب من الألم والحسرة على ضياع مستقبلهم وتهديد حياتهم بعد أن فقدوا كل شيء، و هم يتحدثون عن أنواع القنابل والرصاص والغازات السَّامة والطائرات الحربية؛ وتحوَّلت أحلامهم وطموحاتهم وكل أمنياتهم في الدنيا، إلى الحصول على (تفاحة كبيرة) و (شرائح بطاطا مقلية) و(فرخة) في أحسن الأحوال؛ بعدما دكَّت البراميل المتفجرة مدارسهم، وأحرقت دفاترهم وأقلامهم، واغتالت مستقبلهم؛ بل مزَّقت جسد رفقائهم على مقاعد الدراسة إلى أشلاء متناثرة هنا وهناك، وشتَّت شمل أسرتهم بين مدفون تحت الأنقاض، ومشرَّد بين خيام النازحين ومعسكرات اللجوء في مختلف قارات العالم، فضلاً عمن ابتلعتهم الأمواج وسط البحار. وهو، للأسف الشديد، المصير نفسه الذي ينتظر أهالي الرقة وأهالي الموصل في العراق. ومع هذا كله، ما إن اقترب المدنيون وبعض الثوار من (معبر الراموسة) لمغادرة المدينة حسب طلب النظام، حتى انهمر الرصاص عليهم من كل حدب و صوب؛ فمنهم من قُتِلَ رضيعه بين يديه، ومنهم من اخترق الرصاص قلبه فأرداه قتيلاً، ومنهم من استقرت الشظايا في أنحاء متفرقة من جسده فتركته بين الحياة والموت، ومنهم… ومنهم… أسأل الله اللطف بهم. و على سيرة (معبر الراموسة)، تذكرت (معبر رفح) وما يجده إخوتنا الفلسطينيون عنده من عذاب يومي لعقود؛ إلا أنني حمدت الله كثيراً، لأن الرصاص لا ينهال عليهم كما حدث لأهالي حلب الأبرياء العزَّل من نساء وأطفال وشيوخ عند (معبر الراموسة). أضف إلى هذا أن جامعة الدول العربية (لم تقصر) في حق الفلسطينيين، فقد طالعت في الأخبار، وأنا أعد مقالي هذا للنشر، أنها: طالبت (مشكورة ومأجورة) بوضع حد لانتهاكات إسرائيل بحق الأسرى الفلسطينيين.. صحيح، لا ندري من الذي طالبته.. المهم أنها طالبت، بعد أن سئمت الإدانة والاستنكار، والشجب بأقسى العبارات، ودعوة المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته، ومراقبة الوضع عن كثب، والترقب والانتظار لما تتخذه أمريكا وروسيا من إجراءات وقرارات.. و إنشاء طويلة عريضة، لا تسمن و لا تغني عن جوع. ألا ترون معي أن (جامعة الدول العربية) (لم تقصِّر) في واجبها حقاً؟! حسناً، ما ذا تفعل إذن أكثر من هذا كله؟ كنّا نتمنى عليها أن تكون قوة حقيقية، وأداة فاعلة لتوحيد صف العرب، وحفظ دمائهم، والدفاع عن كرامتهم، وحماية مقدراتهم، وصيانة استقلالهم، وعدم السَّماح بظهور أي خلافات بينهم، وتوحيد جهودهم لخدمة الأُمَّة. أجل، كنَّا نتمنى على جامعة الدول العربية أن تكون لها سياسة واضحة، وقرارات جريئة حاسمة حازمة، كحسم قائدنا سلمان وحزمه؛ وقوة ظاهرة رادعة، وكلمة مسموعة؛ يعمل لها المجتمع الدولي الذي اتخذت منه جامعة الدول العربية شماعة لتعليق فشلها الذريع عليه في إدارة شؤون العرب، ألف حساب. كنَّا، نحن الشعب العربي، نتمنى على بيتنا الكبير أن تكون له هيبة مدوية تكبح السلطة المعنية في أي بلد عربي دون استثناء من التغريد خارج السرب، وشق صف الوحدة العربية، والسَّماح للدول الأخرى بالتدخل في شؤون العرب. كنَّا نتمنى على جامعتنا العربية العتيدة، أن تكون الخصم والحكم لأية سلطة في كل البلدان العربية تنتهك قوانين الإنسان أو تسيء لمواطنيها أو تميز بينهم في الحقوق والواجبات، استناداً للعرق والدين أو المذهب. أجل، كنَّا نتمنى لجامعتنا أن تكون ممثلاً حقيقياً للعرب في الهيئات العالمية ولدى جميع دول العالم، تدافع عن حقوقهم وتتحدث باسمهم وتضع حداً لكل من يحاول التجاوز على أية دولة عربية، مهما كان كبيراً أو صغيراً. وقتها، لم يكن لمغتصبي السلطة في كثير من البلدان العربية أية قدرة للعبث بحق شعوبهم، وتهيئة المناخ لحروب أهلية وتدخلات أجنبية بحجة حقوق الإنسان، لإذكاء الصراع وتشتيت شمل الأمة وتفريق جمعها، كما يحدث لأُمَّة العرب، لا أقول منذ (الخريف العربي) الذي بدأ بحرق بوعزيزي تونس نفسه عام 1432 هـ (ديسمبر 2010م)؛ بل منذ اتفاقية سايكس – بيكو السِّرية المشؤومة بين فرنسا وبريطانيا عام 1335هـ (1916م)، التي تم بموجبها اقتسام (الكعكة) العربية لمناطق نفوذ بين هذه الدولة وتلك. أدرك جيِّداً: قد تعترض جامعة الدول العربية على حديثي هذا، متحججة بعدم امتلاكها موارد كافية للاضطلاع بما ننتظره منها لتكون عند حسن ظننا؛ غير أنها تستطيع فعل هذا و أكثر، إن هي امتلكت الرغبة الحقيقية في التحول إلى قوة تنفيذية، وعين عربية حمراء، وخيمة كبيرة يأوي إليها كل العرب، دونما موارد تذكر لشراء طلقة رصاص واحدة، فضلاً عن الحلم بـ (أم قنابل عربية).. عليها فقط أن تكون: 1 – محايدة تماماً في سياستها تجاه كل الدول العربية، تقف من الجميع على المسافة نفسها. 2 – قادرة على توحيد صف العرب، وبالتالي تحديد سياسة واضحة للتعامل مع الشأن الداخلي في البيت العربي الكبير من جهة، و بينه و بين العالم الخارجي، كبيره و صغيره، من جهة أخرى. أجل، لقد آن الأوان لجامعة الدول العربية أن تنفض عن نفسها الغبار، وتخلع ثوبها القديم، وتغيِّر إستراتيجية عملها لإعادة هيكلتها، كما أكد سيِّدي الوالد، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله و رعاه، في قمَّة عمَّان الأخيرة؛ لتتحول إلى أداة فاعلة في تسوية الصراعات العربية البينية، وبالتالي قطع الطريق أمام أية تدخلات أجنبية من أية دولة في العالم مهما كانت مكانتها، وحفظ كرامة العرب واستعادة هيبتهم بين شعوب العالم. لا أريد أن أنكأ الجراح بالحديث عن مآسي العرب بسبب غياب كيان عربي حقيقي، لكن انظروا فقط لما يحدث للعرب من مهازل؛ ففي مدينة كركوك العراقية مثلاً، التي يمثل العرب (70%) من سكانها الأصليين، يصر الإخوة في إقليم كردستان على رفع علمهم عليها، تمهيداً لضمها لدولتهم التي أصبحت قاب قوسين أو أدني؛ و في اعتقادي لا ينقصها غير إعلان ساعة الصفر، وفرض الأمر الواقع إيذاناً بتقسيم العراق، فضلاً عن تحول بلداننا العربية لساحة حرب مفتوحة لتنافس القوى العظمى، وسوقاً رائجة لسلاحها وأدوات دمارها الشامل. والسبب: غياب إستراتيجية عربية جادة واضحة حاسمة. و بجملة واحدة: نريد جامعة دول عربية قوية، نواتها التحالف العربي لإعادة الشرعية في اليمن الجريح الذي تقوده السعودية.. تلم الشَّمل، ويقف فيها الجميع كتفاً بكتف، ليس لحماية أُمَّة العرب والدفاع عن مقدساتها ومكتسباتها فحسب، بل لتحرير فلسطين، وفرض وجودها في العالم بين الكبار، واشتراكها بشكل فعلي جاد في صياغة سياسة العالم، وتوجيه اقتصاده، وحجز مقعدها بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن طوعاً أو كرهاً.. و إلا ففضوها سيرة على رأي الإخوة المصريين، ولتحل جامعة الدول العربية نفسها، فأكثر وسائل الإعلام تواضعاً في أية دولة عربية اليوم، تستطيع القيام بدور جامعة الدول العربية من إدانة وشجب واستنكار لظلم الكبار، وحتى الصغار مثل إيران، لأمتنا.. فاصحوا يا عرب. رابط الخبر بصحيفة الوئام: #مقالات – وداعاً حلب.. السَّلام على جامعتكم يا عرب
مشاركة :