ساهمت دواخل المنازل المرسومة والمفتوحة على غرف أخرى أو نوافذ مُطلة على الخارج أو تظهر فيها مرايا عاكسة في تذكية تشعب المعاني والاحتمالات التي تعبر عنها اللوحة.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/04/21، العدد: 10609، ص(17)] تعددت المواضيع التي تناولها الفن التشكيلي العربي، وذلك منذ أكثر من خمس عشرة سنة، ولم تترك مضمارا إلا ودخلته بأساليب وتقنيات مختلفة. في وسط هذه الغزارة في الأعمال التشكيلية العربية يغيب موضوع واحد، رغم أنه يتحمل تنويعا بصريا هائلا وباستطاعته اليوم أكثر من أي زمن مضى أن يستوعب مجمل المواضيع التي أحضرها الفنان المعاصر إلى أعماله. يُسجل غياب اللوحات التي تجسد امرأة تقرأ رسالة، هي رسالة حبّ في معظم الأحيان يكتنفها الغموض، رسالة تتقاسمها بطلة اللوحة أحيانا مع رفيقتها أو رفيقاتها في اللوحة أو تبقيها لنفسها فقط. عرف الفن منذ حلول القرن السابع عشر، وخاصة مع الفنانين الهولنديين من أمثال بورخ وهوخ أروع هذه اللوحات التي تجسد كل أنواع التوق والشوق والقلق والملل والمفاجأة والترقب، والخيبة والارتياح، والشك والخوف وكل ما بإمكانه أن يشير إلى الحروب والأسر واللجوء، والمؤقت والمؤجل ويشير كذلك إلى الأحلام وإلى أقسى الأوهام المتعلقة بالسلم وأشرسها دفاعا عنه. كما ساهمت دواخل المنازل المرسومة والمفتوحة على غرف أخرى أو نوافذ مُطلة على الخارج أو تظهر فيها مرايا عاكسة في تذكية تشعب المعاني والاحتمالات التي تعبر عنها اللوحة. ولعل أعظم هؤلاء الفنانين هو العملاق جوهانس فيرمير، فنان قدم لوحات غنية بالأجواء التي يمكن للمشاهد المعاصر أن يرى فيها اليوم أكثر بكثير مما رأى فيها الفنان وجمهوره آنذاك. قد يعتبر البعض أن التخاطب عبر الإنترنت وانتشار البريد الإلكتروني بشكل شبه كامل في العالم، هما السبب الرئيسي خلف اعتبار لوحة تجسد موضوع كتابة أو رسالة أو قراءة رسائل مكتوبة بخط اليد أمرا باهتا ويردّ إلى زمن موغل في القدم، غير أن التمعن أكثر في خصوبة هذا الموضوع وإمكانياته الضمنية كفيل بأن يعيد هذا النمط من الفن إلى الواجهة وبقوة. يكفي أن نعود إلى تأمل اللوحات التي تصور هذه المواضيع لندرك من منظار معاصر أن قراءة رسالة بخط اليد كما نراها في هذه اللوحات هي فعل تحدّ للذات. إنها القراءة عكس تيار الزمن، إنها قراءة تفرض التروي وتزيح شبح القراءة السطحية التي تختزل المعنى ظنا منها أنها تكسب وقتا إضافيا هو، حتما، وقت ضائع في أحسن الأحوال. في هذه اللوحات يعود للخصوصية وللفردية بريقهما السابق ويعود التأويل لما يمكن أن تشير إليه عناصر اللوحة من خبر أو من معنى إلى الواجهة. لذلك وأكثر لا شك في أن إعادة اكتشاف هذا الموضوع من منظار شرق أوسطي معاصر ستشكل حالة فنية تستحق اهتماما كبيرا، يمكن أن تنتج عنها أجواء ومعالم جديدة لم يتطرق إليها حتى الآن الفن التشكيلي العربي والمعاصر بعيدا عن ضوضاء الميديا والاستنساخ. فيرمير في لوحاته يبقى متكتما على ماهية الرسالة التي تلقتها بطلة اللوحة ليشعل خيال قارئ اللوحة، يلغّم لوحته ببعض الإشارات التي هي الأخرى مُلتبسة وتتطلب أكثر من تأويل. الحديث وجها لوجه، أو التخاطب عبر رسالة مطبوعة إلكترونيا، لا يشبه الرسالة المكتوبة بخط اليد بالشيء الكثير، هذه الأخيرة تبقى مُحيّرة بطبيعتها، كل رسالة مرسومة في أي عمل فني تبقى في صفة المجهولين: المصدر والمقصد. إنها هذه الحيرة، أو هي القلق الذي لم يبارح يوما أي عمل فني معاصر، قلق يسعى ليس إلى القبض على الواقع بقدر ما يريد استنطاقه كما يستنطق قاضي التحقيق المُجرم. تصبح هذه الحيرة المُجسدة بسذاجة ورقة بين يدي بطلة اللوحة، المركز الذي تدور من حوله المعاني المجُسدة بصريا بحسب أسلوب وأفكار فنان دون آخر. يلقننا الفن في هكذا لوحات أكثر من فنّ العيش، يدفعنا إلى التساؤل حول الحياة ومصداقيتها، يلقننا أن بساطة حضور رسالة في اللوحات هي حجاب مُضاد لمكينة الزمن الكاسح. ناقدة لبنانيةميموزا العراوي
مشاركة :