رسالة إلى أستاذتي بقلم: ميموزا العراوي

  • 11/3/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كل ما تمنيته لحظتها، هو أن أستطيع إعادة اتصالي بأستاذتي، حاولت كثيرا، ثم علمت أنها توفيت في بريطانيا منذ أقل من سنة. العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/11/03، العدد: 10801، ص(17)] في أحد الأيام الماطرة والباردة، جلست أنا وزملائي على مقاعد الدراسة الجامعية لنشاهد فيلم “المُرشد”، أحد أبرز أفلام المخرج الروسي أندري تاركوفسكي، يومها أصابتنا سوداوية عميقة تكلمنا عنها مع الأستاذة ومخرجة الأفلام الوثائقية، البريطانية جانيت هايدكلارك، رحمها الله، التي كانت تثابر على “تفخيخ” وإشعال أيامنا الجامعية بأفلام رائعة، معظمها جدلية، توجّب علينا لاحقا أن نكتب عنها. لحظة انتهاء الفيلم، أسرعنا في الاعتراض عليه، بسبب أثره الذي “لن تزيله رؤية أي فيلم آخر”، وأضاف معظمنا قائلا “لا ينقصنا إلا أن نشاهد هكذا أفلام لكي نُصاب بالإحباط”. يومها ضحكت أستاذتنا، وقالت “سوف تشكروني يوما ما، لأنكم ستعثرون على مشاهد من هذا الفيلم، أو تعيشون فصلا من فصوله في فترة ما من حياتكم القادمة، ولسوف تدركون ما يعني أن تكون مُخرجا رائيا تخطّى زمنه بأشواط”. عادت إليّ هذه الذكرى يوم عرفت أن هذا العمل الخارق للمخرج الروسي قد تمّ ترميمه منذ أقل من سنة ليستعيد بريقه الأول، أول مشهد خطر على بالي هو مشهد “المنطقة المحظورة” المصورة بشاعرية فنّية خانقة لونيا وإخراجيا، حيث تمحورت أحداث الفيلم في منطقة صنعها كويكب سقط من السماء، وتميزت بقوى خارقة دفعت الحكومة العسكرية إلى إحاطتها بأسلاك شائكة، لذلك أوجد المُخرج شخصية “المرشد” الذي أخذ على عاتقه تهريب الناس إلى داخل المنطقة مقابل بعض المال. تذكرت جوّ عرض الفيلم آنذاك، في تلك الغرفة التي شاهدنا فيها مئات الأفلام، وتذكرت وجه “ميسز جانيت” وكلامها عن رؤية الفيلم من خلال ضوء جديد، قالت لنا بأنه سيفتح أمامنا حقل النظر نحو أمور كثيرة لم نكن نعيها تماما، ضوء سيجعلنا نقدّر اللحظات الحلوة عبر إدراكنا لهشاشتها وللخطر المُتعاظم للبشر على البشرية. كل ما تمنيته لحظتها، هو أن أستطيع إعادة اتصالي بأستاذتي، حاولت كثيرا، ثم علمت أنها توفيت في بريطانيا منذ أقل من سنة. كنت أودّ أن أقول لها “أجل.. كنت على حقّ، باستطاعة الفن ‘الملتزم’ -إذا مازال لهذه الكلمة أي معنى- إزاحة الستارة عن حقائق مستقبلية كبرى، وهو قادر على التحذير وطرح الأسئلة التي تكمن أحيانا في مُجرد طرحها إجابات مُقلقة ورادعة، ولا سيما إذا كانت من الأسئلة التي تتناول خطر التكنولوجيا، كالأسلحة النووية التي يتم تطويرها وبيعها وشراؤها بسهولة صاعقة، والخوف من عدم إمكانيتنا كبشر على التحكم فيها إذا ما هي خرجت عن طوعنا، وقد خرجت عن ذلك مرارا عن قصد وعن غير قصد”. لعل فترة الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية هي من أكثر الفترات التي تدل على هذا الخوف من المُستقبل، إذ كان الشعب الروسي والأميركي على السواء يعيشان في قلق خرافي من حرب نووية، كما أصبحت فكرة الدمار الشامل الناتج عن أي حرب نووية ترمز إلى الشعور الحاد بالفراغ والهشاشة الراقدة بوقاحة تحت بساطة وعادية الحياة اليومية، وقد ترجمت هذه المخاوف في الشعر والفن التشكيلي والإبداع السينمائي. كنت أود لو كان بإمكاني أن أقول لها أيضا “أصبت حين قلت أن تاركوفسكي هو من المخرجين الرائين، ولكن ماذا سنصنع الآن أمام هذا الفن، الفن الدامغ، وقد بتنا نعيش فعلا ما صوّره لنا؟ وما صوّره لنا هو فصول انهيار العالم كما عرفناه جارحا وقابضا، ولكن من دون شك مُلطّفا بالوعود الوردية ووفرة الآمال بما هو أكثر حلاوة، وأقل شقاء؟”. صدق إندري تاركوفسكي، يا أستاذتي البعيدة في كتابه الشهير “النحت في الزمن”، حين شرح ماهية المنطقة المحظورة في فيلمه -الذي لم تُزِله رؤية أي فيلم آخر- قال “كثيرون يسألونني ما معنى المنطقة المحظورة التي ظهرت في فيلم المرشد؟ حسنا، في الفيلم، هذه المنطقة لا ترمز لشيء، المنطقة هي الحياة”. ناقدة لبنانيةميموزا العراوي

مشاركة :