نحن نفتخر بتاريخنا لكننا لا نحترم أنفسنا ولا التاريخيلعب الباحثون في التاريخ أدوارا جوهرية في توعية شعوبهم، حيث يكشفون لهم أسرار الماضي وتفاصيله، لتأسيس حاضر أكثر تماسكا. فالماضي كما يراه الكثيرون يظل الدرس الأول للأمم الطامحة إلى الرقي. “العرب” التقت الباحث في التاريخ التونسي محمد حسين فنطر وكان لنا معه حوار حول التاريخ ودوره اليوم.العرب حسونة المصباحي [نُشر في 2017/04/21، العدد: 10609، ص(15)]الماضي التونسي العريق له دور في الحاضر يعدّ الباحث والأكاديمي محمد حسين فنطر المولود عام 1936 بمدينة قصر هلال التونسية، والمتخرج من جامعتي سترازبورغ والسربون المرموقتين، واحدا من أهم المؤرخين المتخصصين في التاريخ القديم، الفينيقي، والبونيقي، والقرطاجني تحديدا. وفي هذا المجال له مؤلفات عديدة باللغتين العربية والفرنسية، تمثل مراجع أساسية إليها يعود المختصون في تونس، وفي جميع أنحاء العالم. على مدى ثلاثين عاما، انشغل فنطر باكتشاف آثار كيركوان القديمة الكائنة بمنطقة الوطن القبلي التونسي. وعن ذلك أصدر دراسات وبحوثا قيمة. وتقديرا لمكانته العلمية الرفيعة، ولبحوثه ودراساته في مجال التاريخ القديم، تقلد فنطر مناصب رفيعة في وزارة الثقافة التونسية. كما نال أوسمة تونسية وفرنسية من أعلى مستوى. تهميش الثقافي في بداية اللقاء، يعبر لنا محمد حسين فنطر عن أسفه لتعامل الأحزاب السياسية مع الثقاقة. فهذه الأحزاب في نظره تفضل النزاعات الأيديولوجية والعقائدية على الجدل الثقافي والفكري الرصين والهادئ، بل إن بعض الأحزاب التي تحظى بقواعد شعبية واسعة تحتقر الثقافة والمثقفين. وأكثر من مرة حرضت هذه الأحزاب مناصريها على الاعتداء بالعنف على مثقفين، وعلى تخريب ندوات فكرية ومعارض للرسم، وعلى إفساد حفلات فنية، مبررة ذلك بدواع أخلاقية ودينية. والحال أنها كانت من ضمن الأحزاب التي صاغت الدستور الجديد، وأمضت على كل البنود القاضية بضمان حرية التعبير والتفكير لكل التيارات. يرى فنطر أن الأحزاب الجديدة التي ظهرت في المشهد السياسي التونسي خلال السنوات الماضية تفتقر إلى العمق الفكري والثقافي، وإلى المعرفة الدقيقة بتاريخ البلاد القديم والحديث على حد السواء. من هنا ندرك سبب سطحية خطابها السياسي، وشعبويته، والديماغوجية التي تسمه في غالب الأحيان.محمد حسين فنطر: يجب مراجعة تعاملنا مع تاريخنا في كل مراحله لنعرف حقا من نحن يضيف فنطر قائلا “لقد أثبت التاريخ في جميع مراحله أن من جملة أسباب فشل الثورات وسقوطها، إهمال الثقافة، وتهميش المثقفين، أو اضطهادهم وقمعهم ومنعهم من التفكير بحرية. لذا أعتقد أن الانحرافات الخطيرة التي شهدتها ‘ثورة الحرية والكرامة‘ في تونس، والتي ما زالت تشهدها، تعود أساسا إلى تعامل الأحزاب الخاطئ مع الثقافة والمثقفين، وجعل الجدل حول مستقبل البلاد في جميع المجالات قضية خاصة بها وحدها. لذلك أنا أشجع كل حزب يبادر بفتح المجال للمثقفين والفنانين للمساهمة في بلورة أفكار ومشاريع حول حاضر البلاد ومستقبلها القريب والبعيد”. يتابع ضيفنا “أهم ما ربحناه من ‘ثورة الكرامة والحرية‘ هو حرية التعبير والتفكير. لذلك فإن التراجع عن هذا المكسب العظيم سيكون ضربة قاضية للثورة المذكورة. لأجل ذلك لا بد من التصدي بحزم لكل من يسعى إلى نسف هذا المكسب الذي يتعارض تعارضا تاما مع التوجهات الأساسية”. التعامل مع التاريخ بخصوص التعامل مع التاريخ القديم، يقول فنطر “في الحقيقة نحن نتحدث ونقول دائما بفخر واعتزاز إن تاريخنا التونسي يمتد إلى 3000 سنة. وهو بالفعل كذلك. إلاّ أن تعاملنا مع هذا التاريخ سيء للغاية؛ فبخلاف متحف باردو، نحن لا نعير بقية المعالم والآثار الدالة على عظمة تاريخنا القديم اهتماما كبيرا، كما أننا لا نتعامل معه وجدانيا، بل ننظر إليه كما لو أنه لا يخصّنا، ولا يمتّ إلينا بأي صلة. من هنا نفهم عدم تأثير هذا التاريخ على حياتنا، وعلى تقاليدنا، وعلى نمط تفكيرنا. بل يمكن أن نعاين أن الإيطالي والفرنسي والألماني وغيرهم من الأوروبيين، في تعاملهم مع تاريخنا القديم أكثر منا احتراما له واهتماما به وتقديرا له. وهذا يؤلمني كثيرا، كما يؤلمني أن تحتفي إيطاليا بشخصية كبيرة مثل حنبعل، وتقيم له التماثيل الفخمة، في حين لا نكاد نجد له أثرا في بلادنا، فلكأنه ليس ابنها الشرعي الذي دافع عنها، وترك لها تراثا عظيما في مجال الخطط الحربية. أليس هذا أمرا معيبا ومخجلا؟ وأنت تعلم أن فرنسا قامت في بداية احتلالها لتونس عام 1881 بالاستيلاء على مدينة صفاقس بعد أن دَكّتها بالمدافع، وقتلت الكثيرين من أهاليها. ومؤخرا بلغني أن فرنسا سلمت صفاقس نسخا من المفاتيح، في حين أنه كان يتوجب عليها أن تسلمها المفاتيح الأصلية لتثبت أنها طوت صفحة ماضيها الاستعماري”. لذلك يرى الباحث أنه من الضروري أن نراجع تعاملنا مع تاريخنا القديم في جميع مراحله لنعرف حقا من نحن، ومن أين جئنا، وكيف كنا. وهذه هي المكونات الأساسية لكل بلاد تسعى لأن تكون جذورها راسخة في أعماق التاريخ.التاريخ في جميع مراحله أثبت أن من جملة أسباب فشل الثورات وسقوطها، إهمال الثقافة وتهميش المثقفين يضيف فنطر قائلا “الحقيقة أن مراجعة نظرتنا إلى التاريخ القديم أساسية جدا في هذه المرحلة الانتقالية التي تشهد نزاعات وصراعات وتقلبات خطيرة. فقد سعت أحزاب تتستر بالدين إلى التشكيك في هويتنا التونسية التي تعكس مكونات تاريخنا في جميع مراحله، وتصرفت وما زالت تتصرف كما لو أننا شعب مقطوع الجذور تتوجّب تربيته على أسس جديدة، بل إن هذه الأحزاب استنجدت بدعاة متطرفين لبث أفكارها وتعاليمها، وهذا أمر خطير للغاية. لذلك لا بد من التصدي لمثل هذه الدعوات التي تشكك في هويتنا التونسية، وفي الركائز الأساسية لتاريخنا. ولا بد أن يكون هذا التصدي قائما على بحوث ودراسات عميقة في هذا المجال، وليس على الشعارات وعلى الجدل العقيم في المنابر الإعلامية وغيرها. وبذلك نتمكن من نسف النعرات العشائرية والقبلية التي برزت مؤخرا، والتي أشعلتها وما زالت تشعلها تيارات لها مصلحة في بث الفوضى والهمجية في البلاد”. وعن قضية اللغة العربية التي تشغله كثيرا، يقول فنطر “ورد في القرآن الكريم ‘وعلم آدم الأسماء كلها‘، ومعنى هذا أنه بواسطة اللغة نحن نسمي الأشياء والحيوانات والنباتات والأحجار والطيور وكل ما يوجد في الكون. وبذلك يمكننا أن نسيطر على المحيط الذي نعيش فيه. وقد عاينت أن اللغة العربية راهنا لا تسمي الكثير من الأشياء الجديدة والقديمة؛ فهناك أشجار لا نعرف أسماءها. وكذا الحال بالنسبة إلى الطيور والأزهار. وثمة آلات نعرف أسماءها الأجنبية ولا نجد لها أسماء في اللغة العربية. ومعنى هذا أن اللغة العربية التي كانت في يوم من الأيام لغة كبيرة، واسعة الانتشار، بها كتب الفرس واليهود والمسيحيون، تعاني راهنا من ضعف ومن تقلص وانكماش. لذا لا بد من العمل على إثرائها، وتطعيمها بمفردات وبأسماء جديدة للأشياء من حولنا، وإلا نكون قد عجزنا عن السيطرة عليها. وأظن أنه حان الوقت لإعداد قاموس تاريخي للغة العربية. وهو ما نحتاجه لكي تكتسب لغتنا من جديد الحيوية والانفتاح والقدرة على البقاء”.
مشاركة :