عند لا فونتين الضفادع تريد ملكا والذئب يأكل العشب وللأرنب قرنانكثيرون هم الذين انشغلوا من القدماء والمحدثين بالشاعر والكاتب الفرنسي جان دو لا فونتين (1621-1695)، واهتموا بخرافاته وحكاياته التي لاقت شهرة عالمية خاصة بعد وفاته، تلك التي جلّ أبطالها حيوانات تماما مثلما هو الحال في كتاب "كليلة ودمنة" لعبدالله بن المقفع.العرب حسونة المصباحي [نُشر في 2017/08/17، العدد: 10725، ص(14)]لا تشبع بطونهم لأن عقولهم خاوية مؤخرا أصدر الأكاديمي والكاتب الفرنسي إيريك أورسانا، الذي كان مستشارا لدى الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، كتابا بعنوان "لا فونتين- مدرسة للنزهة"، قدم من خلاله قراءة لعصرنا وقضاياه السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها من خلال خرافات جان دو لا فونتين الشهيرة التي لا تزال تمثل علامة بارزة في تاريخ الأدب الفرنسي الكلاسيكي. كان لا فونتين معاصرا لثلاثة من عظماء فرنسا، الأول هو راسين، مؤلف التراجيديات على الطريقة الإغريقية. الثاني هو موليير، الكاتب الساخر الذي أضحك ملك فرنسا “الذهبي” لويس الرابع عشر بمسرحياته الكوميدية. أما الثالث فهو بوالو الذي كان ناثرا من طراز رفيع، به كان يستعين الملوك والوزراء لكتابة خطبهم في المناسبات الرسمية. وفي حين كان هؤلاء ينعمون جميعا بكرم لويس الرابع عشر الذي كان يعتبر أهل الأدب والفن خدما له، حرم لا فونتين من تلك النعم، لأنه صديق لنيكولا فوكيه الذي تقلد مناصب رفيعة، وكان واسع الثراء ومحبا للفن والأدب، ولأهلهما قبل أن يحكم عليه بالسجن المؤبد مع مصادرة كل أملاكه. وكان لا فونتين قارئا نهما لمؤلفات كبار أدباء الإغريق والرومان، وبهم تأثر، خصوصا إيزوب الذي كان يصفه بـ"المعلم". وقد عرف لا فونتين بإقباله الجنوني على ملذات الحياة، وبحبه للنساء. وفي حين اشتهر معاصروه المذكورون، مكث هو في الظل، ولم تدركه الشهرة إلا في السنوات الأخيرة من حياته. وبعد وفاته ازدادت هذه الشهرة اتساعا ليصبح أحد أعمدة الأدب الفرنسي في جميع العصور. ويشير إيريك أورسانا إلى أن لا فونتين كان يطلق من خلال خرافاته البديعة أفكاره بشأن الحياة والناس، وبشأن كل القضايا التي كانت تشغل عصره الموسوم بالدسائس والمؤامرات. وكانت الحيوانات في تلك الخرافات مراياه، وحلفاءه، والأقنعة التي يتخفى وراءها. ومثل ستاندال الذي كان يقول إن الرواية “مرآة نجول بها على طول الطريق”، كان لا فونتين يعتبر كل خرافة من خرافاته مرآة يستعملها لتتحدث باسمه، وتنطق بأفكاره. لا فونتين كان يطلق من خلال خرافاته البديعة أفكاره بشأن الحياة والناس، وبشأن كل القضايا التي كانت تشغل عصره وقد أنقذته خرافاته من مقص الرقابة ومن سيفها القاطع. في رسالة بعث بها إلى المونسينيور لو دوفان، كتب لا فونتين يقول: كل شيء يتكلم في كتابي وما تقوله موجّه لنا جميعا أنا أستعمل الحيوانات لكي أعلم الناس الحكمة والموعظة الحسنة خرافات عابرة للزمن يرى إيريك أورسانا أن خرافات لا فونتين لا تزال تتمتع بحيوية تسمح لنا بأن نرى فيها أنفسنا وعصرنا، وأن نقرأ من خلالها القضايا التي تشغلنا في مجالات مختلفة ومتعددة. صحيح أن العصور تغيرت، ولكن الإنسان لم يتغير خصوصا في ما يتعلق بقضاياه الحياتية والوجودية. فهو لا يزال يخشى الموت، ويفزع منه، ولا يزال يبحث عن الوسائل التي تقيه البرد والحر والجوع. كما أن القوي هو دائما المتحكم في مصير الشعوب والأمم. وروما التي كانت بالأمس باسطة نفوذها على منطقة البحر المتوسط عوضتها امبراطورية أخرى هي الولايات المتحدة الأميركية التي تنشر أساطيلها في كل البحار وكل المحيطات. لذلك وجب تحذير كل الإمبراطوريات المستبدة والظالمة مثلما فعل لا فونتين إذ قد يأتي يوم وتعرف هذه الإمبراطوريات الجوع والبؤس، وتبكي نساؤها بنفس الحرقة التي بكت بها نساء شعوب كانت تعاني من الهيمنة والقهر. ورغم الثورات الكبيرة التي أطاحت بأنظمة الاستبداد، لا تزال شعوب كثيرة تعاني من مظالم حكامها. وقد يتخلص هذا الشعب أو ذاك من طاغية إلاّ أن هذا الطاغية سرعان ما يعود في ثوب جديد ليكون أشد قسوة وشراسة من سابقه. كاتب سبق زمانه وهذا ما عبر عنه لا فونتين في “الضفادع تطلب ملكا”. ويكثر الديمقراطيون والثوريون في عصرنا من تمجيد الشعب، والتكلم باسمه. لكن لا فونتين يحذرنا مثلما فعل حكماء العرب القدماء أمثال الجاحظ وابن خلدون والتوحيدي من جهل “العامة والدهماء”، ومن بطشها، وجنونها. وفي إحدى خرافاته هو يقول إنه “يمكن الطعن في حكم الشعب”. وثمة خرافات يشنع فيها لا فونتين من خلال الحيوانات بالدجالين والمنافقين من أهل السياسة والإعلام في عصرنا، أولئك الذين يمتلكون “أفواها واسعة، وعقولا صغيرة”. ويمكن أن يكون لا فونتين مدافعا عن الطبيعة وعن البيئة. ففي “الفيلسوف السيتي (متعلق ببلاد سيتيا جنوبي روسيا)، يشهّر لا فونتين بالذين يخربون الطبيعة في كل الفصول، ويدنّسونها، ويقطعون الأشجار الجميلة بوحشية وشراسة. وفي “الذئب والرعاة”، يتعهد الذئب بعدم أكل اللحم مستقبلا، ناصحا نفسه بأكل ما ينفع ويفيد، ويعني بذلك العشب. ونجد في خرافات لا فونتين نقدا لاذعا للمصابين بجنون الاستهلاك، ولمكدسي السلع والثروات، وللذين لا تشبع بطونهم لأن عقولهم خاوية، وفقيرة. ولا يغفل لا فونتين أيضا عن التشنيع بالمجازر والتصفيات العرقية التي لا تزال إلى حد اليوم تلطخ تاريخ الإنسانية بالعار. وفي “أذنا الأرنب”، هو يحدثنا عن حيوان بقرنين جرح الأسد فاغتاظ هذا الأخير، وأصدر قرارا بمنع كل حيوان بقرون من دخول “مملكته”. لذلك فرت بعيدا الثيران والأكباش والأيائل وكل الحيوانات ذوات القرون. وأصيب الأرنب المسكين بالذعر ظانا أن أحد جواسيس الأسد قد يشي به، زاعما أن أذنيه الطويلتين قد تكونان قرنين. لذلك ودع صديقه الجدجد ليلتحق بأصحاب القرون. في السنوات الأخيرة من حياته، قرأ لا فونتين نصا أمام أعضاء الأكاديمية الفرنسية التي منعه لويس الرابع عشر من دخولها بسبب مساندته لنيكولا فوكيه، وفيه يعتذر عن كتابة خرافات. لكن في اليوم التالي تناول الريشة وواصل كتابتها.
مشاركة :